كثير من التراجم مختزلا مجتزأ. وناقض بعض الروايات بعضا، وصعب تصديق بعضها، فظلت جوانب من تلك الشخصيات مغلقة؛ فما أقل ما يعرف عن عبد الحميد وابن المقفع والطائي والبحتري وابن الرومي والمتنبي، فهم لا يكادون يظهرون في ضوء التاريخ إلا في جناح أمير أو ركاب عظيم؛ أما نشأتهم فمهملة، وهي التي لها أكبر الأثر في آدابهم؛ وأما حياتهم اليومية فمغفلة، كأن ليس لها خطر ولا شأن.
وما قصر فيه المؤرخون لم يعوضه الأدباء أنفسهم: فكثير منهم لم يصوروا أنفسهم في أشعارهم ورسائلهم صورا واضحة، ولم يودعوها خلجات أفئدتهم ونظراتهم في الحياة، بل ما أكثر الكتاب الذين قصروا بيانهم على إنشاء رسائل الأمراء، والشعراء الذين توفروا بأشعارهم على مديح أرباب النوال، فامتلأت آثارهم الأدبية بذكر أناس كثيرين ووصف أحوالهم وأفكارهم، فيما عدا منشئي تلك الآثار الأدبية أنفسهم وأحوالهم وأفكارهم، فلا غرو جاءت آثارهم متشابهة، لا توضح شخصياتهم ولا تنهض ببعض ترجمتهم، ومن العجيب أن أكثر الشعراء إفصاحا عن أفكارهم الخاصة وحاجاتهم وشعورهم، كانوا هم المجان والخلعاء الذين لم يكن لهم شعور ولا تفكير في سوى اللذة والعبث كبشار وحماد.
فالناظر في ديواني الطائي والبحتري، وفي رسائل ابن العميد والصاحب، لا يعثر إلا نادرا على فقرة أو أبيات مصدرة عن شعور شخصي للأديب هو ببيانه محتفل، أو فكر جليل هو في إذاعته جاد، ولا يرى في الشعر إلا مديحا وهجاء وشكوى للزمان وافتخارا بعلو الشأن، أو ما كان يجب للشاعر من علو الشأن، وضربا للأمثال واصطناعا للحكمة؛ ولا يرى في النثر إلا تنميقا وتدبيجا واقتباسا وتكاثرا بسعة الاطلاع، فلا غرو يتشابه أولئك الشعراء إلا تفاوتا قليلا في الصياغة، وأولئك الكتاب إلا اختلافا بسيطا في الأسلوب؛ فإذا أنت نزعت جانبا كبيرا من نظم أولئك الشعراء، أو نثر أولئك الكتاب، لم تشوه آثارهم بانتزاع ما لا غنى عنه لبيان نفسياتهم؛ وإذا أضفت بعض آثارهم إلى بعض لم يعقك عائق من تميز شخصية عن شخصية أو اختلاف منحى عن منحى.
وهناك عامل خطير لا يقل عن هذا أهمية في تشابه شخصيات الأدباء وتماثل آثارهم: ألا وهو نزعة المحافظة والتقاليد التي صاحبت الأدب العربي منذ قامت الدولة العربية وانتشرت اللغة في الأقطار، فقد اتخذ الأقدمون مثلاً عُلياً في البلاغة والشاعرية، وألح