المتأخرون على آثارهم وأغراضهم في القول ومعانيهم محاكاة وتوليدا وتخريجا، وجالوا جولان المتقدمين في ميادين المدح والهجاء، والفخر، وشكوى الدهر، وضرب المثل واستخراج الحكمة، واحتذوهم في النسيب بليلى وهند والوقوف بالأطلال واستحثاث المطي وذرع الفلوات، فكان للأدباء في توالي العصور تراث أدبي واحد يتكرر ولا يكاد يتغير، ويتشكل ولا يكاد يتحول، ويأخذ منه كل أديب ويكاد يفنى فيه، وينهل منه وتكاد شخصيته تغرق في عبابه.
فتقليد المتقدمين دون الطبيعة، واتخاذهم مثلاً عليا يصدر عنها القول، بدل أن يصدر عن الشعور الفردي المستقل، من أكبر أسباب ركود الأدب وتشابه آثار الأدباء وتقارب شخصياتهم؛ ومن ثم جاءت آثار كثيرا من الأدباء المتأخرين متشاكلة مشابهة جميعها لآثار المتقدمين، على تباعد الزمان واختلاف المواطن؛ وظلت شخصياتهم غامضة لأنهم لم يجلوها في كتاباتهم جلاء صادقا.
ولما استفحلت الصناعة اللفظية، واشتد الحرص على المحسنات البديعية، غرقت معاني الشعر وأغراضه وشخصيات الأدباء جميعا في سيل من الألفاظ المرصوفة والعبارات المقتنصة من آثار المتقدمين، وأصبحت دواوين الشعراء جميعا ديوانا واحدا مملوءا بالنكات اللفظية، لا فرق بين أوله وآخره. وما أشبه ما قاله البهاء زهير بما قاله ابن نباتة بما قاله صفي الدين من نسيب متناه في ادعاء الرقة والظرف، ووصف لمجالي الطبيعة تخلط فيه محاسن الطبيعة وصورها ببهارج الألفاظ وزخارفها مزجا عجيبا، وتتطلب البراعة بإقحام مصطلحات العلوم كالنحو والمنطق والنجوم.
ولا ريب أن أمتع الأدب للنفس، وأعلقه باللب، ما أبان عن شخصية قوية، ونفسية مستقلة؛ ومن ثم نرى أن ذوي الشخصيات الأصيلة والنظرات الصادقة في حقائق الحياة، كالمتنبي وأبي العلاء وابن الرومي والجاحظ، هم الذين حظوا، دون غيرهم من أدباء العربية الأقدمين، بالدرس الطويل والترجمة المفصلة من كتاب عصرنا الحالي، لأن آثارهم تشوق الدارس وتحفزه إلى الكتابة والتعليق والنقد، وتحوي صورا من أنفسهم يطيب للمطلع التأمل فيها والنظر إلى الحياة في ضوء أفكارها. ولو حاول ناقد أن يترجم لمروان بن أبي حفصة، أو مسلم بن الوليد، أو مهبار، أو البحتري، أو الصاحب، أو الحرير، ترجمة