لقد هجر هؤلاء البقاع التي تقسو عليها الحياة، لأنهم شعروا بحاجتهم إلى الحرارة فأصبح كل واحد يحتك بجاره وقد احتاجوا إلى الدفء جميعا
إنهم يقتحمون الحياة باحتراس لأن الوجل والمرض في عينهم خطأ، وما سلم من الجنون من يتعثر منهم بالجارة وبالناس
إنهم يأخذون قليلا من السموم حيث يجدونها طلبا لملاذ الأحلام ويكرعون منها ما يكفي دفعة واحدة طلبا للذة الموت
وإذا هم عملوا فإنما يعملون للتسلية محاذرين أن تذهب هذه التسلية بهم إلى حدود الإنهاك
ليس بينهم من يصبح غنيا أو يمسي فقيرا، وكلا الفقر والغني يجلب الضنى، وما منهم من يطمح إلى الحكم أو يرضى بالخضوع وكلاهما محرج مرهق
ليس هنالك راع وليس هنالك إلا قطيع واحد. إن كلاً من الناس يتجه إلى رغبة واحدة، فالمساواة سائدة بين الجميع. ومن اختلف شعوره عن شعور المجموع يسير بنفسه مختارا إلى مأوى المجانين
ويغمز أمكر هؤلاء الناس بعينهم ويقولون: لقد كان الجميع مجانين فيما مضى
لقد ساد الاحتراس بين هؤلاء القوم لأنهم أخذوا بالعبر، فهم يتلقون المحادثات متهمكين، وإذا نشأ بينهم خلاف بادروا إلى حسمه صلحا، لأنهم يحاذرون أن تصاب معدهم بالعلل والأدواء
لهؤلاء الناس لذات للنهار ولذات أخرى لليل، غير أنهم يراعون صحتهم أولا
(لقد اخترعنا السعادة اختراعا) ذلك ما يقوله أناسي الزمن الأخير وهم يغمزون
عند هذا أنهى زارا خطابه أو بالحري تمهيد خطابه فتعالت أصوات التهليل من الحشد وهو يقول: (إلينا بهذا الرجل الأخير يا زارا، اجعلنا على مثال أناسي الزمن الأخير فقد تخلينا لك عن الإنسان الكامل
ولكن زارا وجم أمام هذا الحشد يسوده مثل هذا الروح فاستولى الحزن عليه وقال في نفسه:
إنهم لا يفهمون كلامي، فلست بالصوت الذي تتطلبه هذه الأسماع
لقد عشت طويلا في هذه الجبال وأنصت طويلا إلى هدير الغدران وحفيف الأشجار فأنا أكلم هؤلاء الناس الآن كأنني أخاطب رعاة الماعز