قد يبدو هذا ضروريا في زمن يكاد لا يخلو مؤلف فيه من مقارنة الشرائع. ولكنا رأينا الإعراض عن هذا الاتجاه، لنتمكن من توجيه جميع جهودنا نحو بناء هيكل التشريع الإسلامي في موضوع الالتزامات، حتى إذا ما تم هذا البناء، نكون قد مهدنا لمن يهمه ذلك، أن يقوم بدراسته المقارنة على أسس متينة
وهذا كله لا ينفي أننا في الواقع قد رجعنا إلى أكثر من تشريع واحد في موضوع دراستنا هذه. فأنا لم نخط سطرا واحدا إلا بعد إعمال الفكر في مختلف التشريعات، ليصح فهمنا، ووضعنا للمسألة على وجهها المطلق. فالمقارنة قد تمت بالفعل، ولو أن القارئ لا يقرؤها في الغالب قراءة العين
ونلاحظ هنا أنه من السخف محاولة الوصول عن طريق مقارنة الشرائع إلى إصدار الأحكام التقويمية على هذه الشرائع. فان التشريع كما قلنا ظاهرة من الظواهر الاجتماعية مقيد ككل ظاهرة بظروف الزمان والمكان، ويخضع كذلك لمنطقه هو نفسه، وإذا كان يجوز للغريب عن العلوم القانونية أن يدهش لغرابة بعض الأحكام، ففقيه النفس يرى فيها على العكس دليلاً جديداً على أن العقل البشري قد جاهد وناضل في مختلف البيئات في سبيل الوصول إلى (الحقيقة القانونية)
مقارنة المذاهب - وقد استبعدنا كذلك مقارنة المذاهب واكتفينا مؤقتا بدراسة مذهب (أبي حنيفة)
ذلك أنه قد تبين لنا أن الفقه الحنفي يمثل التشريع الإسلامي في أولى صوره وأنقاها، ولا نرى مجاراة ما هو شائع من أن المذهب الحنفي هو أقرب المذاهب إلى التشريعات الحديثة، فهو أبعدها عنها وإن كان في مسائل العبادات يبدو أكثرهم تسامحا من غيره
أما التقسيم المشهور للمذاهب، ما بين أهل الرأي وأهل الحديث، فهو أيضاً تقسيم لا نرى له معنى. فان جميع المذاهب في الواقع تلجأ إلى الاستدلال العقلي. سواء منها المالكية والشافعية والحنبلية. فمن المعروف أن نظرية (المصالح المرسلة) عند المالكية، و (الاستصحاب) عند الشافعية، تؤديان ما يؤدي إليه (الاستحسان) عند الحنفية. وهذا التقسيم لا يفيد سوى أن الفقه الإسلامي قد انتابه ما انتاب غيره من التشريعات. ففيها جميعها يتجاذب المفسرين دائما تياران، تيار التوسع، وتيار التضييق في التفسير.