البحيرات، وتتوالى عليها الأمطار والثلوج والسحاب والضباب، ويتعاقب فيها الصحو والدجن، وتنتشر في أرجائها الغابات والآجام، وتتتابع فيها الربى والقيعان، فامتلأت لغتهم بأوصاف البحر والغاب، وأسماء ما أسكنوهما من جان، واشتُقت منهما تشبيهاتهم وأمثالهم، فاستُعير الضباب لحالة الشك والإبهام، والسحاب للحزن والقلق، وقالوا في أمثالهم إن الوقت والمدَّ لا ينتظرون إنسانا، وحلت السفينة من مخيلتهم ما كان للجمل لدى العرب من منزلة: فبينما ترى حسان يشبه تراقص الخمر في إنائها بتهادي الناقة المسرعة فيقول:
بزجاجة رقصت بما في قعرها ... رقص القلوص براكب مستعجل
يُشّبَه ملتون (دليلة) وهي شاخصة في عظم جرمها وتمام زينتها وعتادها إلى (سمسون الجبار) لاختداعه عن سر قوته بالسفينة المنشورة الشراع.
وامتلأت قلوب الإنجليز بحب البحر، وظهر أثر ذلك في أدبهم في كل العصور: في روايات شكسبير كالعاصفة وتاجر البندقية، وفي تواريخ أمراء البحر الإنجليز ككتاب (وستوْرَدهو!) الذي سماه مؤلفه كنجزلي بأسم البلدة التي أنجبت معظم أولئك البحارين الذين يسمون بأفذاذ ديفون، وككتاب سَوْذي عن نلسون، والروايات الخرافية عن البحارة الذين لاقوا الأهوال وطوفوا في مسالك البحار، أمثال روبنسون كروزو، واسكندر سلكرك، وجليفر؛ واوصاف البحر وقصصه تكون جانباً كبيراً مما يعرف بأدب الأطفال.
ولم يشغف الإنجليز بالبحر وحده، بل بالماء حيث حل من البقاع، وأياً اتخذ من الأشكال، فهاموا حباً بالأنهار والبحيرات، ونال إقليم البحيرات في غرب إنجلترا مكانة سامية في قلوب شعراء الإنجليز، واتخذه شعراء النهضة الرومانسية مستراداً ومقاماً، وحفلت دواوينهم بأوصافه ومحاسنه، فحل في إنجلترا محل جبال برناس التي كانت ترتادها آلهة الشعر في بلاد اليونان.
وحفل الأدب الإنجليزي كذلك بذكر الغاب ووصفه في مختلف أوقات العام، واتخذ مسرحاً لروايتي (كما تشاء) و (حلم ليلة في منتصف الصيف) لشكسبير، وفي الأخيرة تمتزج الحقيقة بالخيال، وتختلط الأناسي بعرائس الغاب وعفاريته، وفي تلك العرائس المتخيلة نظمت أشعار كثيرة، وفي تلك الغابات كان يعيش روبن هود وجماعته ذات الوقائع الممتعة، وبالجملة بثت طبيعة بلاد الإنجليز المتعددة المنظر والحالات أُلفة الطبيعة والشغف