ومخالطتها تلك الأمم يرجع ذلك الرقي الأدبي والمادي الذي بلغته قبيل الإسلام، وظهورها على القبائل في الثروة والجاه والشرف واللغة، وإنجابها عظماء الرجال الذين على أيديهم توطدت دولة الإسلام في حال من التمدن وسط بين همجية البداوة ونعومة الحضارة.
ولو استمر العرب بالبيئة الخارجية طبيعياً محدوداً هكذا لازدادوا رقياً وازدادت لغتهم بهاء وأدبهم ازدهاراً؛ ولكن التوسع الخارجي الذي أعقب نجاح المسلمين الحربي المفاجئ أوقف ذلك التأثر البطيء، وأحدث انقلاباً تاماً في مجرى الأمور، فلم يعد تأثر الأدب العربي بالعالم الخارجي مقصوراً على النقل التدريجي، بل انتقل الأدب ذاته جملة من وطنه الأصلي وهجر بيئته الأولى إلى بيئة أو بيئات جديدة في الشام والعراق ومصر والأندلس وغيرها، والأدب العربي في انتقاله هذا ومهاجرته هذه من وطن إلى وطن نسيج وحدة بين آداب الأمم.
وجد الأدب العربي نفسه في بيئة جديدة، في أراض مزروعة مثمرة، وأمم مترفة مستقرة، وبلدان عامرة متحضرة، ذات علوم وصناعات، فتأثر بهذه البيئة الجديدة في ثلاث النواحي سالفة الذكر: في مفردات اللغة وتعبيراتها التي ازدادت بالنقل والتعريب، وفي المهن ومظاهر العمران، وفي وصف مناظر الطبيعة الجديدة، فكثر في الأدب ذكر الرياض والأزهار.
على أن تأثر الأدب في الناحيتين الأولى والثالثة كان قليلاً نسبياً لفني اللغة في الاشتقاق الذي أغناها عن الإمعان في التعريب، ومحافظة العرب التي نفَّرتهم من استعمال ألفاظ اللغات الأخرى وأخيلتها إلا ما جاء عفواً أو ضرورة، وحرصهم على احتذاء أسلافهم حتى ظلوا يقلدونهم في وصف البيد والخيام والنؤى والعيس، وهم يعيشون بين الأرياف والعواصم، فقامت هذه التقليدات للمتقدمين في الأدب العربي كالمتحجرات في عالم الجيولوجيا: قد فقدت كل حياة ولم تعد إلا رموزاً للماضي.
ولم يشغف العرب شغفاً حاراً بمظاهر الطبيعة التي صادفوها في بيئتهم الجديدة، وكأن نفرتهم القديمة من قسر الطبيعة لم تفارق نفوسهم، وكأن كل ما كانوا يطمحون إليه بعد أن طووا الأميال ضرباً في فلوات الجزيرة وهواجرها، ظلّ ظليل وماء سبيل وهواء بليل، تريح الجسوم وترويها وترفه عنها بعد طول الكد، فغص أدبهم الطبيعي بذكر راحة الجسم