للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولذات الحواس، دون طويل تأمل في محاسن الطبيعة واجتلاء لأسرارها وتقصٍّ للذكريات والآمال عندها، وأجمع الأمثلة لذلك قول الشاعرة الأندلسية:

وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم

نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنوِّ المرضعات على الفطيم

وأرشفنا على ظمأ زلالاً ... ألذ من المدامة للنديم

يصد الشمس أنى واجهتنا ... فيحجبها، ويأذن للنسيم

إنما كان أشد تأثر الأدب العربي في بيئته الجديدة بالناحية الثانية، ناحية العمران، ناحية الحياة المستقرة في البلدان، المعتمدة على الزراعة والصناعة، الخاضعة للملكية، وهي عكس حياتهم في البادية تماماً، فانغمر الأدباء في جو المدن، واعتزلوا الطبيعة وتكأكأوا على بيت الأمراء، وتزاحموا على مجالس الطرب والشراب، واستفرغوا جهدهم في انتهاب فرص الحياة من جاه ومال ورفاهية ولهو، وتأثر الأدب بذلك: فلم يعد يتغنى بالنجدة والبأس والقناعة، بل طاب له الاستظلال بسلطان الحاكمين، يترنم بمدحهم بعد أن كان أمثال عمر بن كلثوم يثورون على نيرهم، وتفنن في وصف مظاهر التحضر وضروب الترف واللهو في المدن.

أما الأدب الإنجليزي، فتأثر بالبيئة العالمية في النواحي الثلاث - نواحي مبنى اللغة ومظاهر العمران ومنظر الطبيعة - تأثراً كبيراً: فاللغة الإنجليزية تدين للغات الأجنبية ولا سيما اللاتينية بأكثر مفرداتها وطرق اشتقاقها وكثير من تعابيرها ومجازاتها؛ والمجتمع الإنجليزي تأثر بالمجتمع الإيطالي في عصر الإحياء، وبالمجتمع الفرنسي في عصر لويس الرابع عشر؛ ولم يخلُ في عصر من التأثر بحالة العمران في أوربا، إذ كانت الحضارة الأوربية الحديثة مشتركة بين شتى الأمم؛ وباطلاع الإنجليز على أوصاف الطبيعة في الآداب الكلاسيكية ازدادوا شغفاً بمفاتن بلادهم، وزادوا فوصفوا محاسن الطبيعة في إيطاليا وبلاد اليونان وغيرهما.

تأثر الأدب الإنجليزي بالبيئة العالمية في شتى النواحي، ولكنه لاستقراره في وطنه الأول وبيئته المحلية جاء تأثره بالأولى بطيئاً محدوداً لم يطغ على خواصه المحلية، بل ظلت للبيئة المحلية المكانة الأولى والآثار الواضحة في الأدب، ولم يزد الأثر الخارجي على أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>