وطافا حرمه مع الطائفين من أهل القرية، وصلى الناس الظهيرة مهللين مكبرين، ثم قاموا إلى المحطة، أما مصطفى فأنه تناول جبين ابنه لثماً وزفر أنفاساً محزونة ثم توارى.
ورأى حسن في غمار الناس أخاه يونس يرفس في أطماره ويزوي مسكنه وفاقة، وقد غارت عيناه بين غضون الشقاء والاغتراب.
وتعانق الأخوان، وناح يونس من كبد نادمة موجعة، ونسى حسن جراحه السالفة وما فعل قابيل به وقال:(لا عليك يا أخي! وابتاع تذكرتين وحمل إلى أخيه قرصين من خبز السميذ).
واستقر الناس في العربات في حلل العيد وحولهم قدورهم وحلواهم، وأخليت مساند القرية للشيوخ، أما الولدان والرضع فركبوا كواهل الآباء وحجور الأمهات.
وتوالى ولوج هذا الركب المنكود بأفنية العربات، وامتد مصافهم إلى السقف، حتى لقد أسبلوا من أبدانهم ستراً كثيفاً على النوافذ. وكرت العربات في إثر القاطرة تهب الأرض وركبها لاه يرى انطواء الحقول والضياع والقرى كالصحف المصورة بيد الطفل ينشرها ويطويها.
وكان ذلك قدراً محتوماً وإن كان مكتوماً، فنزل بالركب المسافر موت فات الذين نوعوا أسباب الموت، وغاب بهم الحساب عن الذين يعدون على الأيام أنواع البلاء وألوان العذاب.
ذلك أن سعيراً من وقود جهنم فار من موطئ الأقدام وجوف العربات كما فار الطوفان من أغوار مدينة نوح.
وما كان الركب إلا أهل الفاقة والمسكنة عبيد الضائقة المالية قد ذهب رب الحقل بما أنبتوا من قطن وبر، ومشت الحكومة بماشيتهم في الخراج. ولو كانت العربات مفضية إلى بعضها لسارع الناس بالنجاة من باب إلى باب وخلفوا النار تأكل بعضها، ولكنها يا للحسرة الفاجعة، كانت عليهم موصدة في عمد ممددة.
وكشفت نوافذ العربة لمن يرجوا النجاة وثباً، فتقاطر كل مقبل على موت ليختار أحد السبيلين أيهما أهون عذاباً. أغمرة الإحراق، أم دق الأعناق؟ ورأى أهل القرى والحقول ضرام النار في أتونها المستعر، وها لهم ضجيج الوقود البشري، وجن جنونهم لغفلة السائق