للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لا رجاء في شفائها، وأن يُذبل زهرة أيامه في بذل الطمأنينة والسلوى والكلام الحلو الراجي لمرضى بني الناس عوضاً عن بذل العلاج الناجح الذي لا يعرف له وجودا. واختصاراً تراءى له الطب والطِّبابة أنهما عمل مهوّش لا يستقيم مع العقل السليم. وأحب أن يضرب في المجهول قليلاً ليعلم من خفاياه قدراً يستطيع حمله فلا ينوء به ظهره، أو يُتخَم به عقله. كان طبيباً ولكنه شاء برغم هذا أن يكون باحثاً، ورغب بخاصة إلى دراسة المكروب. وكان قد عُنِي وهو في كُرنيل باللعب على الأرغون، لَعِبَ عليه المزامير وقطعاً من بيتهوفن (ولم يكن جاء زمن الجازباند). وفي كرنيل في جامعتها عبّ عبّة طيبة من الرياضيات ومن علم الفيزياء ومن اللغة الألمانية، وبخاصة أشتد ميله إلى النظر في المكرسكوبات، ولعله عندئذ نظر أول مكروبة رآها.

ولكنه لما جاء مدرسة الطب في ألْبَني لم يجد في أساتذتها اهتمامابالمكروبات، فلم يكن هذا العهد يَعْمدون في شفاء الأمراض إلى قتل الجراثيم. ولم يكن في المدرسة برنامج لدراستها، بل لم يكن في أي مدرسة طبية بأمريكا شيء من هذا، وأراد أن يتعلم علم الجرثوم برغم كل هذا، وكان لا يأبه لألوان العرفان التي كانت تتعاطاها الجمهرة من طلاب الطب، وكان يحتقر التخرّصات والأكاذيب التي يسبلون عليها رداء العلم. وأشبع هَوِيَّته يبحث أحشاء القطط بحثاً مكرسكوبياً، ونشر أول رسالة له في ذلك، وفيها أبان اختلافاً للطبيعة خرجت بها في أعماق بطون القطط عن المألوف الذي درجت عليه في سائر الأحياء، وعلق عليها حواشي دلّت على الفطنة وحدة في الذهن شديدة، وكانت أول عمل دخل بفضله في زمرة البحّاث.

ونال درجته الجامعية، وأراد أن يتخذ التجريب العلمي صناعته، ولكن تحتّم عليه قبل ذلك وفوق ذلك أن يرتزق ليعيش. وكان في هذا الوقت كثير من أطباء أمريكا الأحداث يتسابقون إلى أوروبا، إلى الأستاذ الكبير كوخ يودون أن تتاح لهم الفرصة ليقفوا وراء ظهره، ويتعلموا من فوق كتفه كيف يصنع البِشلاّت وكيف يُربيها صريحة، وكيف يضربها بالمحاقن تحت جلود الحيوانات، وكيف يستطيعون من بعد ذلك أن يتحدثوا عن المكروبات حديث الخبير الضليع. ورغب إسميث أن يتبعهم، ولكن تحتم عليه أن يبحث عن وظيفة ليعيش. ورحل هؤلاء الأطباء الشبان الأثرياء إلى أوروبا، وبينما هم يأخذون من العلم

<<  <  ج:
ص:  >  >>