الداء في البهائم الحية، أراد أن يدرسه فيها وهي تلفظ آخر أنفاسها، أراد أن يتتبع الطبيعة في خطواتها. وجاء صيف عام ١٨٨٩ فأخذ يتجهز له. وذات يوم أخبره كلبورن بخبر تلك النظرية الخرقاء التي يتحدث بها البقارون، تلك النظرية التي تعزو الداء إلى قراد البقر.
عندئذ أرهف إسميث آذان عقله، لو أن للعقل آذاناً:(إن البقارين الذين يعيشون مع البقر، ويخسرون البقر إذا مات، ويرون من هذه الحمى الخبيثة أكثر مما يرى الباحث، هؤلاء البقارون هم الذين يقولون بهذه النظرية!).
ولد اسميث في المدينة، فهو ابن المدينة لا ابن الريف، ومع هذا فقد كانت تستهويه نفحات الحشيش وهو يحش، وأخاديد الحقل الدكناء وهو يفلح. وكان يؤمن بتلك الجمل القصيرة المقلمة التي ينطق بها الفلاحون عن الجو وعما تنبت الأرض، وكان يرى الحكمة فيها وأنها الحق أو أقرب ما تكونه. كان إسميث ضليعاً في الرياضيات عارفاً باختزالاتها البديعة، وهي علوم يجهلها كل الجهل هؤلاء الرجال الذين اصطنعوا الأرض واحترفوا فلاحتها. وكان كذلك ضليعاً خبيراً في كل تلك العلوم التي تتمثل في المجاهر والأنابيب والخرائط وبريق المعامل، ملماً بكثير من فنون العرفان الدنيوي الصناعي المزوق الذي درج على احتقار الحكمة تجري على ألسن العامة، والسخرية بسذاجة الفلاح وبساطة حاله. ولكنه مع كل هذه الدراسات الواسعة لم يأذن للأبنية الفخمة والمعامل البديعة وأجهزتها المعقدة أن تعكر عليه فكره الرائق، أو تتنفس على مرآة ذهنه الصقيلة، وهذا فيمن نشأ نشأته غريب نادر. وكان دائم الشك لكل ما يحصله من الكتب، دائم الريبة في كل ما تريه الأنابيب. . . ونظر إلى أشد الفلاحين جلفاً واخشيشاناً، وأحصرهم وأعقدهم لساناً؛ حتى إذا أمسك ببيبته - وهي من قلاح الذرة - فأخرجها من قبضة أسنانه - وقد تكون صفراء قلحة قذرة - فهمهم كالرعد بالمثل الريفي المشهور:(شآبيب ابريل تنبت زهور مايو)، سقط هذا القول من فم هذا الفلاح إلى قلب صاحبنا كأنما سقط من شفة حكيم أريب.
واستمع إسميث إلى كلبورن وهو يتحدث حديث النظرية السخيفة، وأكد له كلبورن أن البقارين في الغرب يكادون يجمعون على أن القراد أصل البلاء؛ ثم أخذ يفكر ملياً: (رؤوس هؤلاء البقارين خالصة من زخارف المنطق ومفسدات الفكر، وإن أجسامهم لتتفاوح منها