للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومضى الليل إلا قليلاً وأنا كما أنا، آخذ بقلبي وأرد بعقلي! ولبثت يتقاذفني تحذير اليأس وإغراء الأمل حتى يئست ونمت.

ورأيت في الرؤيا أني أزورها وأنها ترحب بي؛ وما أحسب إلا أن لقاءنا كان في فردوس، فقد رأيتها ترفل في الخز حول قامتها قوس من نور يتهادى على أفق من شفق، وتحت قدميها ورد منثور كأنه طبقة من الأرض، وهي تتخفف في خطوها كأنها تسير على الماء.

وسرت إليها أترفق بالورد، ورأتني أحييها بتحية قلبي فتبسمت فتبسم في ثغرها الأمل، ثم تأودت فكأنها بانة عطفتها نسمة، ثم قالت: تعال. . .

ثم. . . ثم قالت: أهلاً. . . تعال. . .

ووثب قلبي إليها ووثبت أدركه بين يديها فصحوت. . .

وما تم الليل بانفلاق صبحه حتى تم في قلبي الحب بانتصار أمله على يأسه، فشعرت بها تغني في قلبي، وتتجلى في عقلي، وتميس في خيالي؛ ثم شعرت بها توحي إليّ وحي فتنتها لتؤدي به رسالة الجمال إلى الفن، وتثبت فيه ارتباط الفن بالجمال.

وعشت أستوحيها حيناً من الدهر طال ما طال ولم يكن فيه إلا اكتفائي من حبها بالوحي: أتنسم حنان صوتها، وأتفيأ ظلال مفاتنها، وأعيش في جوها وأناجيها وأستلهمها. . . كل هذا وأنا بعيد أتباعد لأن قلبي جعل لها سلطاناً عليه وتهيّبها وبذلك سد على منافذي إليها.

ولكن الحب أقوى وأشد. . . فما زال بي حتى طغى علي فرحت أطلب زيارتها؛ وهي كانت تعرف وحيها في كلامي ولا تعرفني، فعرّفت نفسي إليها بكتاب، ثم ذهبت أزورها في موعد حددته. . .

وكان موعدها في ضحوة النهار من يوم مخلد؛ قمت ليله أتطير بالشوق بين الفرح والرهبة، ولا يتحول بصري عن الساعة في يدي وهي تبطئ كأنها نائمة؛ وكلما غبرت من الليل، فترة ودعتها من الفؤاد زفرة، حتى أحسست في نهاية الليل أن دمي قد احترق بنيران فكري، وأنني لم يبق مني إلا هيكل كل ما فيه أنه هيكل.

وجاء الموعد الذي كنت احسبني لن أبلغه. . . جاء الموقف الذي كان وراء العقل. . . جاءت الساعة، ولقيتها. . . ولقيتها وأنا حي!!

ماذا كنت في تلك اللحظة؟. . . إني كنت بركاناً وكنت زلزالاً وكنت ريحاً عاصفاً. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>