وجلست هكذا في قاعة الاستقبال بدارها، ورأيت الأثاث فيها كأنه يهتز لينقلب على رأسي.
أكان هذا حباً؟. . . أكان هذا شوقاً؟. . . لا والله إنه كان هذياناً، ثم ظهرت فيه حكمة الحب عندما لاحت الفتانة بالباب تتقدم إليّ؛ وحكمة الحب لا تظهر إلا حين يريد هو أن تظهر. . .
جاءت تتيه في مشيتها كأنها سكرى، وكأن خطواتها همسات قلب متيم إلى صاحبه، وكانت قد بارحت فراشها من لحظة، فدخلت علي صاحيةً بكل جسمها إلا عينيها، فقد كانتا ذابلتين كأنهما ما تزالان في نعاسهما.
أما وجهها فكان بمسحة النوم عليه كأنه الفجر مائلاً بسناه يقبل باقة من الورد. . .
أما شعرها فكان ثائراً كأنه ليل عاشق مؤرَّق، وكأنها استيقظت وما يزال رأسها نائماً في ليله. . .
أما قوامها فكان سكباُ من البان في سكب من الحرير. . .
أما هي - أما هي فكانت سحراً يمشي ويتبختر، وكانت حسناً متكبراً بتواضع. . .
وجاءت تلوح لعيني متصوفة سكرى وقالت: أهلاً بمن سبقه إلينا شيطانه!!
ثم صافحتني بيد أنضر من الزهر، واتخذت مجلسها، ثم نظرت إلي تتأملني فقلت: وكيف عرفت شيطاني؟. . .
قالت: أما شعر لي وتغنى بي وكتب عني؟. . .
قلت: يا له حظاً سعيداً. . . ما كنت أحسب شيطاني موفقاً هذا التوفيق!! أو تقرئين ما يكتب؟!
قالت: بلى. . . وما أحبَّ شياطين الشعراء إلى نفوسنا نحن المغنيات. إن للمغنية في كل شاعر تستميله مرآة ترى فيها نفسها؛ والشاعر والمغنية كلاهما تمام الآخر فيما خلقا له.
فتنهدت وقلت. إنك الآن توقدين رأسي
قالت: وكيف ذلك؟
ثم انبسطت على شفتيها ابتسامة صغيرة بان فيها أنها داهية تمكر؛ إلا أن مكرها في ابتسامتها كان مكراً أحمر ملتهباً في فتنة حمراء ملهبة؛ فنظرت إليها أستزيده ثم قلت: كلامك هذا فيه نار أشعر بأجيجها في رأسي.