اختارها المغنون للرشيد، فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب وأوفاه، ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلم وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها.
ولن أحاول في الصفحات التالية أن أضع في ترتيب واتصال هذه الأشعار والقصص المضطربة التي رسخت في الأذهان واندس بين ثناياها جميع ما نعرفه عن بلاد العرب في العصر السابق للإسلام؛ إذ أنجز هذا خير إنجاز وفي دقة عجيبة كوزان دي برسيفال في كتابه ' ' وليس هناك ثمة جدوى مطلقاً من أن أسوق للقارئ موجزاً مقتضباً لهذا العمل القيم، والأجدى - كما يتراءى - أن أسوق للقارئ بضع ظواهر واضحة بينة تمثل هذه الفترة كما وضعها العرب أنفسهم. وإذا كانت الأحاديث العربية يعوزها الدقة التاريخية فإنها في مجموعها تكشف القناع عن الروح السائدة في العصر المظلم الذي تستحضره في غياهب الزمن السحيق وتبرزه أمامنا.
وفي حوالي منتصف القرن الثالث المسيحي كانت تتاخم بلاد العرب من الشمال والشمال الشرقي إمبراطوريتان تتنافسان في الزعامة هما دولة الروم ودولة الفرس اللتان تفصلهما صحراء الشام عن بعض؛ ولما رأى الفرس أنهم عرضة لغزوات البدو الذين كانوا يشنون الغارات بين حين وآخر على الحدود، ويستولون على ما يصل أيديهم من الغنائم، ثم يختفون بنفس السرعة التي اتسمت بها اغاراتهم، لما رأوا ذلك وجدوا الضرورة تدعوهم إلى إيجاد حامية على طول حدود هذه الصحراء، وبهذا أمكن صد غزوات القبائل البدوية وغاراتها، ولكن تبيّن أن القوة علاج غير ناجح تماماً، فضلاً عما تكلفه الدولة، وعملاً بالمثل القائل: (فرّق تسد فقد ارتُؤي إدخال بعض القبائل المغيرة في خدمة الإمبراطورية. ومما أدّى إلى عدم قيام البدو بأي اضطراب دفع شيء من المال لهم بانتظام، واستعدادهم على الدوام للغزو الفجائي إذ كان الروم والفرس في هذه الأيام في حروب لا يخمد أوارها ولا يخبو ضرامها، ومن ثم فقد حاربوا كمحالفين أحراراً تحت لواء أمرائهم أو شيوخهم. وبهذه الوسيلة ظهرت أسرتان عربيتان هما دولة الغساسنة في سورية واللخميين في الحيرة غرب الفرات، وكانتا في نزاع دائم واصطدام ونزال، حتى ولو لم تكن تدفعهما من الخلف قوة الإمبراطوريتين، وسرعان ما ظهرت كفاية العرب الحربية ومهارتهم حينما درّبوا على الأسلحة. وفي أثناء حرب فاليران مع كسرى سابور الأول