ومضى قصير إلى عمرو بن عدي وطلب إليه أن يثأر لخاله، فقال عمرو:(كيف وهي أمنع من عقاب الجو)، فجدع قصير أنفه وأذنه ودخل على الزباء، وأخبرها أن عمْراً لاحق به لقتله جزاء خيانته فصدقته وأعطته مالاً للتجارة، فأتى بيت مال الحيرة فأخذ منه بأمر عدي ما ظن أنه يرضيها، وانصرف به إليها، ففرحت به، ثم قال لها يوماً:(إنه ليس من ملك ولا ملكة إلا وقد ينبغي له أن يتخذ نفقاً يهرب إليه عند حدوث حادثة يخافها) فقالت له: (قد اتخذت نفقاً تحت سريري هذا يخرج إلى نفق تحت سرير أختي) وأرته إياه، فأظهر لها سروره بذلك وخرج في تجارته وعرف عمرو بن عدي ما فعله، فركب عمرو في ألفي دارع على ألف بعير في الجوالق، حتى إذا صاروا إليها تقدم قصير يسبق الإبل وقال لها:(اصعدي في حائط مدينتك فانظري إلى مالك وتقدمي إلى بوابك)، فلما دخل آخر الجمال نخس البواب عكما من الأعكام، فأصاب خاصرة رجل فصاح، فقال البواب:(شر والله عكمتم به في الجواليق) فثاروا بأهل المدينة وانصرفت الزباء راجعة، فلقيت عمرو بن عدي فمصت خاتمها، وقالت:(بيد لا بيد عمرو)
ولقد بلغت الثقافة في مملكتي الحيرة وغسّان في عصر ما قبل الإسلام شأواً بعيداً في الرقيّ وشعشعت أنوارها، وعمّ أثرها جميع أنحاء الجزيرة العربية، وليس من الإسراف في القول أن نذكر في هذا المجال تاريخ وملابسات الظروف، التي مكنتهم من القيام بنشر الرقي والحضارة
في مستهل القرن الثالث بعد الميلاد كانت هناك بعض قبائل يرجع كلها أو بعضها إلى أصل يمني، وقد عقدت فيما بينها حلفاً وسميت في مجموعها (بتنوخ)، وكانت تلك القبائل تثير بين آن وآخر كثيراً من الاضطرابات، وانتشرت في جميع ربوع إمبراطورية وأغارت على العراق، حتى ألقت عصا التسيار في إقليم غرب الفرات الخصيب، وبينما ظلّ بعض المغيرين يحيون حياة بدوية محضة، اشتغل آخرون بفلاحة الأرض وزرعها، وعلى كر الأيام نشأت المدن والقرى، وكان أعظمها أهمية الحيرة (أي المعسكر) ذات الموقع الصحيّ الجميل وعلى مسيرة عدة أميال قليلة من جنوب الكوفة، بالقرب من بابليون القديم، وطبقا لما ذكره هشام بن محمد الكلبي (+ ٨١٩ أو ٨٢١م) المؤلف العظيم عن عصر الجاهلية، فقد كان سكان الحيرة في عهد أزدشير بابكان أول ملك ساساني لفارس