به المخلصين من عباده، حتى رأت يوماً إنسياً يروح ويجيء من بعيد فأيقنت أنها ما زالت على أرض الحياة تعيش
وتعلق نظرها بذلك الشبح الذي تراءى لها وهو يتمشى في سكون، وينقل خطاه في هوادة، وفي يده كتاب لا يقرأ منه إلا لماما ليتأمل مظاهر الطبيعة الفاتنة البادية في الصحراء؛ وظل كذلك حتى لمح عن بعد طيف الراعية الحانية على الغنم تطعمها وتسقيها، فتقدم نحوها عامداً، وراح يتأملها في عجب وهو يتوجس خيفة من وحشة المكان الذي يأويها؛ وقد عجب لجرأتها، وظن أنها لا بد أن تكون همجية مستأنسة أو أنسية متوحشة - ولكن مظهرها الملائكي طبع في ذهنه فاكتسح أمامه هذه الخواطر وراح يرثى لحالها ويفكر في أمرها، ووجد نفسه يتقدم إليها من حيث لا يدري فتوقف عن المسير وأسرع الخطى بعيداً عنها
فلشد ما كان يؤلمه أن يخاطب امرأة مجهولة، وكذلك يخجله أن يواجه امرأة. ولما ابتعد عنها وشعر بطول المسافة بينهما - ندم على تسرعه وقال لنفسه: وما ضرني لو حادثتها؟ ألا يحتمل أن تكون هي صحيفة مجلوة من ذلك الكتاب الغامض الذي يحتاج لقاموس؟ ثم ارتد إليه اعتدال رجولته فاطمأن إلى تصرفه
أما هي فقد راحت تتأمله في حذر وتعجب بدورها! فلأول مرة في تاريخ وجودها في الصحراء ترى إنسياً، وقد كانت سعيدة بوحدتها، فأي قدر قذف إليها اليوم بذلك الرجل المجهول. فملكها خوف ورعب، وسادها قلق واضطراب، وراحت تنظر للخلاء كأنه مغارة مخيفة تكاد تبتلعها، ثم تتزل عليها خاطر غريب فهدأت أعصابها فاطمأن قلبها وقالت لنفسها: عله عابر سبيل!! ثم استعادت بخيالها صورته، فأدركت أنه شاب وسيم الطلعة عليه مهابة الشباب الثري، وتأمله في كتابه يدل على أنه من طلاب العلم أو المتأدبين، من عسى أن يكون؟
عله يملك هذه البقاع فجاء اليوم يزورها - ولكن لو كان لسألني بأي حق اتخذت هذه البقعة؟ ثم إني لا أعرف إنساناً متمدينا يبلغ به جنون الزهد أو التقشف إلى حد يدفع به إلى شراء أرض قاحلة لا فائدة منها. والناس كلهم يجرون وراء الفائدة المادية
بهذه الخواطر شغلت نفسها طوال الليل حتى طلع الصباح فمر بها وقد تأملها في سكون،