بينما هي تتأمله في خفر، وراح يمر عليها كل يوم ملقياً عليها نظرة عابرة وهي تتعمد أن تبدو غير آبهة ولا حافلة، حتى اشتد ظمؤه يوماً، فاقترب منها وعليه طابع الصلف والكبرياء وطلب كوب ماء، فقدمت له إناء به ماء وهي تبتسم وتقول: يؤسفني أن الماء غير مكرر. . . فذق مياه الزاهدين (قالت ذلك بلهجة لا تخلو من عطف خفيّ، ولطف ساذج، وعذوبة محببة، وتحفظ رزين، فتأفف وأبى في صمت قالت: إذن تفضل كوبة من اللبن؟
فهز رأسه موافقاً وشرب ثم مد يده ببعض دريهمات إليها فامتنعت في إباء وقالت: المال لطلاب الحياة ولست منهم! فشكرها في إيجاز وكبرياء، وتركها في موقفها وسار في طريقه في هدوء وراحت تترقب مروره وقد هيأت له كوب اللبن في كل صباح فلم يحضر، ومرت الأيام وقد ازدادت لهفتها
لم ترغب فيه كرجل يحادثها أو يجالسها، ولكنها كانت تود أن تراه ثم تغمض عينيها إلى الأبد، ولم تستطع تفسير شعورها الغامض الذي ملكها. لقد باتت تحلم به في الليل وتترقبه في النهار، وجاءها على غير موعد يطلب لبناً. . . ولما شرب ظل في موقفه لا يتحرك ولا يتكلم وهي في موقفها تواري اضطرابها بالاشتغال في غزلها وأخيراً قال بلهجة التهكم المر: ما الذي جاء بك إلى هذه البقاع الجرداء وأنت صبية حسناء؟
فمالت برأسها إلى الخلف وقد بانت أشد فتنة وسحراً ثم قالت في هدوء ودعة:
ما الذي نجنيه من حياة المدنية وضجيجها! ما الذي نجنيه من أوهام الحياة؟
لا شيء بالتأكيد!!. .
إذن خير لنا أن نفكر على قدر عقولنا في حياة تكفل لنا بقدر المستطاع الأمن والسلام
فضحك الشاب متهكما وقال: وإذا كان جميع الناس على هذا الطراز (طرازك التقشفي) فما الذي تجنيه الإنسانية أيضاً؟
قالت: على الأقل تخلو من التنابذ والتنافر فترتدع الخلائق عن الحرب والتقاتل
فازداد تهكما وقال:
وهل تظنين أن امتناعك عن مشاطرة الناس حياتهم العامة يشوه من جلال الحياة؟