قال ذلك وهو يتأهب للانصراف فتشبثت بردائه وقد نسيت حذرها وخوفها وقالت: ابق بجانبي، ابق بجانبي، لا تتركني هكذا وشيكا
فتعمد عدم الاهتمام وحاول أن يخلص نفسه من بين يديها. ولما رفع وجهه إلى عينيها ولمح دموعها تخاذل وأخفق وأطرق برأسه في استسلام وقد تجهم وجهه ولزم الصمت. وأخيراً غمغم بصوت خفيض: أتمنى، فقبضت على يده وهي تقول: افتح عينيك!! ودعني أتأمل فيهما طويلا
دعني أتأمل فيهما حتى نهاية الوقت بل دعني أتأمل فيهما حكاية قلبي!! وهنا تلاشى كبرياؤه وبدأت عواطفه تشيع في عينيه وتتراءى كالظلال على شفتيه بسمة السخرية حتى امتدت إلى قهقهة طويلة فاستفاق فوجدها بين يديه جثة هامدة
فنضحها بالماء حتى استفاقت ففتحت عينيها في بطء وغمغمت: أما زلت هنا أيها القدر الجائر. ثم ابتسمت وقالت أترانا انتهينا؟
قال: أي قوة هائلة قد قذفتك من أعماق الحياة لتأخذي مكانك في قلبي؟ فانتصبت وقد ملكها الفرح وقالت: إذن أنت لي وسوف تظل بجانبي إلى الأبد
وأحس في أعماقه بسخرية القدر فتألم لها وعليها، إذ أدرك خطورة تصرفه وأيقن أنه عاجز عن مكافأتها على حبها - انه مرغم على فراقها، فللتقاليد حرمة يجب أن تصان، ولبيئته تقاليد مرعية يجب أن تحترم، ولوالده عليه حق الطاعة والخضوع - فتلطف بها وقال: قد أكون تطفلت عليك فمعذرة، سأذكرك دائماً بالخير، وإذا احتجت إلى معونة فأنا أقرب الناس إليك
فتألمت واحتجت في عنف وحاولت أن تحتم عليه البقاء بجانبها فخانها النطق وقعد بها الحياء
ولم يترك لها مجالاً لاستعادة قواها. فحرك ساقيه ومضى عنها مهرولاً وتركها في مكانها تتمتم:
أيمكن أن تقذفني الحياة من أعماقها إلى شاطئ فيصدمني القدر بصخرة الفناء
ومرت الأيام سراعا وهي تترقبه كل يوم وتسقط ورقة أحلامها من على شجرة أمانيها ذابلة صفراء وحاولت أن تبحث عنه هنا وهناك فلم تعثر على آثار خطاه