الاختبارات المتعاقبة هي التي تشير إلى اتجاه النفس، وتدل على ناحية الاستعداد المجهول؛ فلابد من ترك الطفل حراً، ومن تعويده الاستقلال في النظر والعمل وفي تلقي وقع الحياة، وفي طريقة استجابته لهذا الوقع. ولا نكران أن الرقابة لا معدي عنها، ولكنها يجب أن تكون بحيث لا يشعر بها الطفل ولا يتأثر بها. وكذلك ينبغي أن يكون التوجيه حين يجيء وقته، وإلا فقد الطفل استقلاله وخيف أن يكون قد اتجه حيث أردت له لا حيث يدعوه استعداده الشخصي
ومزية أخرى هي أن الطفل يمثل الأدوار التي اجتازتها الإنسانية والمراحل التي قطعتها كلها في تاريخها الطويل. وصحيح أنها تكون فيه - أي في الطفل - مختزلة جداً، ولكن المرء يستطيع أن يفطن إلى بعضها وإن كان يفوته أكثرها. وحسبي هذا القدر لئلا ندخل في مباحث علمية لا قدرة لي عليها
ومزية ثالثة لا يشق عليَّ الكلام فيها ولا يثقل فيما أرجو على القارئ؛ وتلك هي أن الطفولة غرائز ساذجة وعواطف واحساسات فطرية لم تهذب ولم تصقل، ولكنا بالتربية نعود الطفل أن يكبح شهواته ويضبط أهواءه ويضع لنفسه اللجم والقيود، وهذا شبيه بما يصنعه المجتمع بنا نحن الكبار. وقد يعلم القراء - أو لا يعلمون فما أدري - أن سبيل المدنية أن تتخذ من النظم الاجتماعية مجاري تتدفق فيها العواطف والغرائز الإنسانية الساذجة الفطرية. مثال ذلك أن الحب هو الذي يرجع إليه الفضل في نظام الزواج الذي صلح به أمر المجتمع إلى الآن. ذلك أن الرجل كان فيما خلا من عصور الاستيحاش تأخذ عينه امرأة فتروقه فيخطفها أو يستحوذ عليها بالقوة أو غير ذلك من الوسائل، ويستأثر بها ويقاتل دونها ما دام راغباً فيها، ثم يدعها أو يبقيها بعد الفتور عنها إلى أخرى تستولي على هواه، وكان الأمر كله فوضى ولكنه انتظم بالزواج، فلا خطف الآن ولا قتل ولا عنف. وقد احتفر الرقي المجرى الاجتماعي فتدفقت فيه الحياة من هذه الناحية. وكذلك الوطنية ليست في مرد أمرها إلا مظهر أنانية وأثرة، ولكن نطاق الأثرة اتسع فشمل الجماعة المتماثلة كلها بعد أن كان قاصراً على القافلة الصغيرة مثلاً أو على الفرد قبل ذلك وهكذا إلى آخر ذلك؛ وما من نظام اجتماعي إلا والأصل فيه غريزة من الغرائز الساذجة التي لم تهذب ولم تصقل
ونحن نصنع بالطفل ما تصنع بنا الحياة المدنية - نعلمه كبح الغرائز ونروضه على ضبط