حتى غدا مجموعة من القصور الشامخة الباذخة، تضم عشرات من الأبهاء والأروقة الفخمة، وعشرات الساحات والأفنية العظيمة، ونحو عشرة آلاف غرفة. ولا يستطيع القلم مهماً أوتى من قوة أن يصف ما تزدان به تلك الصروح والأبهاء الخالدة من نقوش وزخارف وصور تأخذ الأبصار بجمالها وروعها؛ ويكفي أن نقول إنها مثوى لأبدع وأروع ما تمخضت عنه عبقرية الجمال والفن في أعظم وأزهى العصور
على أن روعة الفاتيكان لا تقف عند جمال الفن؛ وإنما تمثل بنوع خاص في ذلك الدور الخطير الذي أداه في تاريخ النصرانية، وتاريخ البابوية، فقد كان الفاتيكان وما زال رأس الكنيسة المفكر وروحها المسير، وكان مدى عصور طويلة مبعث تلك السلطة الزمنية القوية التي زاولتها البابوية مع سلطنها الروحية جنباً إلى جنب؛ وكانت أبهاء الفاتيكان ومخادعة مسرحاً لكثير من الحوادث التاريخية البارزة، وكانت أيضاً مسرحاً لكثير من المؤامرات والدسائس والمآسي المروعة
وليس بين صروح أوربا الأثرية كلها صرح يثير ما يثيره الفاتيكان في النفس من روعة وإجلال وإعجاب؛ وسيبقى الفاتيكان عصوراً علما على عظمة البابوية الذاهبة، وسيبقى حلية الآثار النصرانية والكنسية كلها
ولنتحدث بعد ذلك عن قصر الدوجات ذلك الصرح الذي لا يدلى مظهره المتواضع بذلك الدور العظيم الذي لعبه في تاريخ أعظم جمهوريات العصور الوسطى
كان قصر الدوجات الذي لا يزال يجثم بحناياه العربية البيزنطية وشرفاته المنخفضة بجوار كنيسة القديس ماركو على المنعطف الذي يصل بين البحر وبين ميدان سان ماركو (القديس مرقص) منزل الدوجات ومستقر الهيئات النيابية التي امتازت بها نظم البندقية في العصور الوسطى، مثل المجلس الأعلى ومجلس العشرة الشهير الذي يثير اسمه كثيراً من الذكريات المروعة؛ وكان رأس الجمهورية المفكر وقلبها النابض، يكتب فيه تاريخها وتدبر فيه أسباب قوتها وعظمتها، وتضطرم فيه تلك الدسائس والمؤامرات الخطيرة التي تدفع بها إلى براثن المحن الدموية أو الفوضى، وكان أخيراً حرمها المقدس وملاذ دستورها، وسلطانها الأعلى
ومن هم أولئك الدوجات الذين سمى الصرح العتيد باسمهم، وتوج اسمهم تاريخ البندقية