ملتون أثر هوميروس وفرجيل، والمقالة أوحت بها كتابات مونتين؛ وليس يدين الأدب العربي بشيء من هذا لغيره من الآداب، ولو فعل لجاء أرحب آفاقا وأوضح مناهج وأبرز أشكالا
استقل الأدب العربي بنفسه وأعتزل غيره، ولم يكن من داخله حافز إلى التجديد والابتكار: فأن نفس السبب الذي صده عن آداب الأمم الأخرى صدف به عن تجديد نفسه، ذلك السبب هو إكبار المتقدمين وإجلال آثارهم إجلالاً لا مطمع معه إلى تنكب طرائقهم أو الحيدة عن أساليبهم، وغير هذه النزعة المحافظة كانت تسود الأدب الإنجليزي: كانت روح التجديد متمكنة من سائر فحوله، لا يمنعهم إعجابهم بمتقدميهم من الأعلام عن اختطاط غير طرقهم، وبفضل هذه الروح المجددة كان الأثر المنقول عن الآداب الأجنبية لا ينشب أن تتمثله الإنجليزية ويونع فيها، ويؤتى ثمرا جديدا لم تحظ به الآداب المنقول عنها؛ فالسونيت أصبحت في الإنجليزية ضربين: الشكسبيري والملتوني؛ والمقالة هذُّبت واستخدمت في مقاصد لم تخطر لمونتين على بال، وكانت أداة إصلاح اجتماعي نادر المثال، وخرجت من غضونها القصة الاجتماعية
وولوع أدباء العربية بالألفاظ استغرق كل تفكيرهم واجتهادهم: ألهاهم احتيال الحيل في تنسيق الألفاظ وإظهار البراعة في استخدامها عن التفكير في المعنى أو الشكل الأدبي الذي يصاغ فيه، فابتكروا كثيراً في البديع الذي يتعلق باللفظ ولم يبتكروا فيما يتعلق بالشكل الأدبي. ولما أراد شاعر مجيد كالمعري أن يأتي بجديد في القوافي لم يتجه إلى تحرير الشعر من بعض قيودها أو تذليلها لإبراز المعنى على أحسن صورة، بل زادها قيوداً فضاعف حروف الروي في لزومياته، لأنه كان يحس أنه يفعل ذلك دون أن يَخْرِمَ التقاليد الأدبية المتخلفة عن الأقدمين، ودون أن يتهمه متهم من النقاد كابن رشيق (بعجزه وقلة قوافيه وضيق عطنه)
واعتماد أدباء العربية على نوال الأدباء، وترددهم على أبوابهم، ومشاركتهم إياهم في لذاتهم وترفهم أحياناً، أو دوام طموحهم إلى تلك اللذات والمتعات، وذهاب أيامهم بين مرارة الحرمان ونشوة اللذاذة ووخامة البشم والخمار، كل ذلك لم يدع لهم وقتاً للتوفر على الأدب الصحيح والانصراف إلى الفن الرفيع، ولم تقم أمامهم حاجة إلى الابتكار والتجديد، إذ كان