للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

البيت تيار. ووضع في البيت موقد لطيف ليرفع حرارته بعيداً فوق الدرجة الثانية والثلاثين المئوية، ووضع فيه براميل مليئة بالماء ليتشبع منه الهواء فيصبح بحره ومائه خانقاً كبطن سفينة ببعض مناطق الاستواء. وكان في هذا كفاية لهذا البيت من كرب وضيق، ولكن جاء الثالث عشر من نوفمبر عام ١٩٠٠ فحمل جند إليه وهم يتصببون عرقاً عدداً من صناديق محكمة التسمير متهمة المنظر جاءت من عنابر الحمى الصفراء لتجعل من هذا البيت مثلاً يضرب في اللعنة والشؤم. . .

فلما أدبر نهار هذا اليوم وخيم ليله شهد ريد وكارول مشهدا من خير مشاهد الشجاعة والتضحية، ففي هذا البيت اللعين الأول دخل دكتور أمريكي شاب يدعى كوك، ودخل معه جنديان أمريكيان (ليت شعري ماذا عوق الناس فلم تنصب لهؤلاء الأبطال تماثيل الأبطال) يدعى أحدهم فوك ويدعى الآخر جرنجان

وفتح هؤلاء الرجال الثلاثة هذه الصناديق المحكمة المريبة داخل هذا البيت في جو رطب متلزج تضيق فيه الأنفاس

أُف لها من رائحة كريهة! ولعنوا وسبوا وسدوا أنوفهم واستمروا يفتحون الصناديق. فأخرجوا منها وسائد عليها القيء الأسود لقوم ماتوا بالحمى. وأخرجوا منها ملاءات أسرةٍ وألحفةٍ تلوثت بما يخرج من المريض إذا غاب حسه وهمدت قوته وضاع تحكمه في جسمه. وأخذوا يضربون الوسائد وينفضون الملاءات والألحفة، فقد كان ريد قال لهم: (لابد أن تعفروا جو هذه الحجرة بالوباء وتنشروه جيداً بين أرجائها). وقاموا يهيئون لأنفسهم من هذا المتاع فراشا على آسرة صغيرة من آسرة الجيش. وخلعوا ملابسهم ورقدوا على هذه الفرش القذرة وحاولوا النوم في تلك الحجرة الملعونة. . . وأقام ريد وكارول على هذه الحجرة يحوطانها بالرعاية ويحاذران خشية أن تدخلها بعوضة تائهة. أما طعام فوك وكوك وجرنجان فلا تسل عنه فقد كان لا شك أطيب طعام

وتوالت الليالي وثلاثتهم في هذا البيت راقدون، ولعلهم كانوا يفكرون فيما صنع الله بأرواح من سبقوهم إلى هذه الملاءات وهذه الألحفة، أو لعلكم كانوا يفكرون هل من سبيل غير البعوض تنتقل به الحمى. . . ثم جاء ريد، وهو رجل يجمع إلى طهارة ذمته شدة دقته؛ وجاء كارول، وهو رجل كالح عبوس؛ جاء كلاهما يزيدان تجربتهما إحكاماً على إحكام.

<<  <  ج:
ص:  >  >>