ولكن الشعور غذاء لا يستغنى عنه، فنحن نحيا لنرى الجمال ونستمتع به، ونتذوقه في الطبيعة وفي الإنسان وفي الفن. . . من أجل هذا نحيا
فوثبت النفس الرابعة (النفس المؤمنة المطمئنة) فقالت: يا للسخف!
قالت الثالثة وقد غاظها ما قالت: أي سخف ترين من فضلك؟ إذا كنا لا نرى الجمال فلم نحيا؟
قالت الرابعة متهكمة: كأنك تحيين الآن! إنك يا سيدتي سجينة فاسعي لتتخلصي من قيود السجن، ثم انطلق في فضاء الحرية، فعيشي في الحياة الأخرى: حياة الانطلاق
ورأيت المناقشة قد طالت وغدت مملة، وتشعبت فيها الآراء فأسكتهن ورجعت أفكر وحدي
قلت: إنني لا أدري لماذا أحيا؟ ولا أعرف ما هي صلتي بالكون!
كنت أنظر إلى الدنيا من خلال الكتب، وأشرف عليها من نافذة المدرسة، فأراها صغيرة كقبضة الكف، فحسبت أني إذا خرجت من المدرسة وحزت الشهادة قبضت عليها بيدي
وعشت بهذا الأمل، فلم أعرف حقيقة الحياة، ولم أعد لها العدة، ولم أجد من يخبرني خبرها إلا هؤلاء الأساتذة، وهم قوم مخادعون، لا يبصرون التلميذ بالدنيا كما هي في ذاتها، بل كما يريدون هم أن تكون. . .
وخرجت من المدرسة، وهبطت من سماء الخيال إلى ارض الحقيقة، فإذا الطريق مزروع بالشوك؛ فانطلقت امشي وأجاهد بهمة الشاب القوي الطموح، فما قطعت من الطريق إلا قليلاً حتى وجدت هذه (الطفيليات البشرية) تتعلق بكتفي وتستمسك بي، حتى إذا دنوت من أول منزل وهممت أن أستريح فيه وثبت فسبقتني إليه، فسرت أجاهد وأتقدم أؤم منزلاً آخر، حتى هدني التعب، ونال مني النصب، ولم أصل إلى شيء
ولاح لي فجأة قصر عظيم على جانب الطريق، تلمع قبابه المغشاة بالذهب، وتشرق جدرانه المغطاة بالفضة، وتضيء نقوشه وزخارفه في شعاع الشمس، ويقرأ على بابه بأحرف من النور:(هذا قصر اليأس) فراعني مظهره، وهممت أن أحيد عن الطريق فأدخله، ولكني نظرت إليه أولاً، فإذا هو موحش مظلم في وسطه قبر مفتوح مملوء بالأساود والأفاعي. . . وإذا هو خال من البشر، ليس فيه إلا جماعة الشعراء البائسين، يعدون قصائدهم لتدفن معهم في هذا القبر الأسود فلا يدري بها أحد. . .