الأمتين لا في أدبيهما فقط. كانت الأمة العربية منذ ظهورها أمة إعطاء، أعطت العالم ديناً وقوانين ولغة وأدباً، ولم تأخذ إلا ما يتضاءل أمام ذلك كله من حضارة الفرس المادية، ونظريات اليونان الفلسفية. وكانت الأمة الإنجليزية أمة أخذ، أخذت عن غيرها دينها، والفت من لغاتهم لغتها، واشتقت من آدابهم أساليب أدبها وأشكاله، وأغنت جزيرتها بخيرات الأقطار، ولم تهد إلى العالم من مبتكراتها إلا نظامها النيابي. وعلى حين انزوت جزيرة العرب قابعة في عزلتها بعد أداء رسالتها، آثرت إنجلترا بما قطفت من أطياب العالم المادية والأدبية التي اجتنتها على مدى العصور اجتناء مميز بصير خبير بما ينفع، نابذ لما يذهب جفاء
أثر الأدب العربي في آداب كثير من الأمم الشرقية، كالهنود والفرس والترك واليهود؛ وما يزال ذلك التأثير ماثلاً في الألفاظ والأساليب التي اقتبستها منه تلك الآداب؛ وقد أدى إلى اتصال تلك الآداب بالأدب العربي اتصال العرب بتلك الأمم بالحرب والتجارة، وبسط العرب سيادتهم عليهم حيناً، ونشرهم دينهم بينهم، فكانت سيادة العرب سبب انتشار اللغة العربية التي ظلت تدرس في تلك الأقطار عصوراً طوالاً، ولم تزل تدرس في بعضها؛ وكان انتشار الدين الإسلامي عاملاً آخر أطول بقاء؛ فلما انتقلت السيادة إلى الفرس فالترك ضعفت مكانة اللغة العربية، بينما ظل التفوق والتأثير للأدب العربي حيناً طويلاً لرقيه وتأخر الآداب الأخرى
ولم يسم من تلك الآداب الشرقية إلى مضاهاة الأدب العربي إلا أدب الفرس. وقد كان بين هذين الأدبين وفحولهما تمازج واتصال وتعارض وتبادل عديم النظير بين أدبين آخرين: بدأ ذلك بانتصار العرب الحربي والديني، وكان أدبهم على جانب عظيم من التقدم، بينما أدب الفرس بدائي لم يتعد بعد طور الطفولة، ولم يستقل تماماً عن الدين، لأنه - كأدب قدماء المصريين - ترعرع تحت ملكية شديدة الجبروت والأنانية، وكهنوتية شديدة الغيرة والأثرة، فلم يكن يعدو الأقاصيص الساذجة والمواعظ ونوادر الملوك والآلهة: أما الأدب العربي فكان قد ترعرع في حرية البادية
فلما اتصل الفرس بالأدب العربي واعجبوا به، لم ينقلوا ما راعهم منه إلى أدبهم بل انتقلوا هم إليه، فنثروا ونظموا في لغة الدولة والدين والقران، وكان منهم جملة من فحول الأدب