العرب في حكم الأقطار: فقد تركوا لها حرية العبادة والمعيشة، وأشعروها مع ذلك بالنقص وانحطاط منزلتها عن منزلة الفاتحين أصحاب الدين والدولة؛ فتسامحهم الديني لم يستفز تلك الأمم إلى مقاومة الدين الجديد ومعاندته، كما قد كان يستفزها القهر والإرغام على اتباعه؛ وشعورها الباطن بالنقص والانحطاط دفعها إلى التشبه بالقائمين بالأمر عليها والانغمار في جملتهم؛ ومن ثم انتشر الدين واللغة وحلا محل غيرهما، وانتشر بانتشارهما الأدب العربي
فالأحوال كانت مهيأة في الشرق مساعدة لانتشار الأدب العربي: لتفوقه وتفوق لغته على ما كان هناك من آداب ولغات، وانتشار دين قومه وسيادتهم، ومشابهة الأمم الشرقية للعرب في الطباع إلى مدى، وامتزاجها بهم في أطراف الإمبراطورية العربية. أما في الغرب فلم يكن الأدب العربي الفصيح ليلاقي مثل هذا النجاح، بل هو لم يلاقي نجاحاً ما، ولم يصب إعجاباً قط؛ وقد هرع إليه متأدبو الإفرنج غير مرة يريدون الانتهال من مورده، وارتدوا خائبين قانطين؛ وبينما وجدوا في الأدب الفارسي ما يترجمونه ويظنون به ظنهم بآثار آدابهم، لم يجدوا في مدائح المتنبي لسيف الدولة وأهاجيه لكافور، وتفنن بديع الزمان في صوغ الأسجاع والنكات على لسان أبي الفتح، ما يستحق عناء الدرس والترجمة، أو يحث على الإعجاب والظن. إنما تنقل الأمم من آداب غيرها ما يمت إلى الإنسانية في شتى بقاعها وعصورها بأوثق الأسباب؛ أما المدح والذم والزخارف اللفظية التي إذا ترجمت تبخرت فلا تنفق في غير لغتها وعصرها
ولقد كانت الآداب الغربية قبل عهد النهضة ناشئة تتلفت باحثة عن الأستاذ المرشد، فلم تره في الأدب العربي الفصيح، لأنه لم يكن أدب شعب ومجتمع وحياة متجددة بل اختار لنفسه إن يكون أدب بلاط، ونديم علية، ورهين تقاليد لا تتغير، واستبعد من حظيرته منادح كثيرة من منادح القول، ومواضيع شتى من صميم الحياة والفن؛ وإنما استفادت تلك الآداب بما وجدته في الأدب العربي العامي من آثار الخيال الرائع، والتصوير الصادق، والتعبير المتعدد الأشكال عن الحياة الإنسانية المتدفعة المتجددة، فضلاً عما ينسم منه من روائح الشرق وبذخه وكنوزه وغرائبه، تلك التي ما زالت من قديم تستهوي نفوس الغربيين وتثير أخيلتهم، فأوسع الأوربيون ذلك الأدب العامي دراسة وترجمة ومحاكاة، ثم لم يلبثوا إن