اهتدوا إلى ضالتهم المنشودة في الأدب اليوناني، فعلوا من معينه ونهلوا
وقد قيل إن كوميدية دانتي الإلهية متأثرة برسالة الغفران، وقصة ربنسون كروزو أوحت بها قصة حي بن يقضان، وذلك بعيد: فلو أن الآداب الأوربية كانت تتأثر بالأدب العربي الفصيح لما اقتصر تأثرها على هذين المثالين الشاردين - على كون قصة حي بن يقضان أثراً فلسفياً لا أدبياً - وليس بين الكوميدية الإلهية وبين رسالة الغفران شبه سوى أن الجنة والنار مشاهد وقائعهما، ولا بين روبنسون كروزو وحي بن يقضان تماثل إلا انعزالهما في جزيرة، وتوفيرهما حاجاتهما بأنفسهما؛ وكلتا الفكرتين بديهيتان يلوح انهما تطرآن على الفكر الإنساني في شتى العصور والأصقاع. وهل شيء اكثر بداهة واقرب إلى الطبيعة من أن دانتي المتعصب الديني في عصر التعصب الديني وفي وطن البابوية يلتفت إلى العالم الآخر ويجري فيه حوادث مهزلته؟ أو إن ديفو المغامر الأفاق في عصر المغامرات البحرية، وفي إنجلترا البلد البحري يتخذ بطلاً لقصته مخاطراً بحاراً؟
أما الأدب الإنجليزي فكان - كما تقدم - أقل من الأدب العربي تأثيراً في الآداب الأجنبية، وأكثر منه تأثراً بها: تأثر من عهد النهضة بالأدب اليوناني والروماني والفرنسي والإيطالي والأسباني ثم الألماني، وأخذ خير ما تلك الآداب من الأشكال الأدبية والمواضيع والأساليب، وصاغها على النحو الملائم لطبائع أهله وعبقرياتهم الخاصة، ومثل كل ما اخذ ونقاه، حتى جاء الأدب الإنجليزي مضاهياً لأحسن ما في تلك الآداب إن لم يفقهها جميعاً عمق فكرة وشمول نظرة وحرارة شعور وصدق عاطفة وبساطة بيان، ونبغ فيه من الأعلام أمثال شكسبير وملتون وبيرون وسكوت من كان لهم مكان رفيع في القارة، وعنى بدراستهم، والإشادة بفضلهم أقطاب الآداب الأوربية، أمثال هوجو وتين وسنت بيف، وحوكيت قصائد بيرون وقصص سكوت، ومثلت روايات شكسبير في مسارح العواصم الأوربية، وساهمت إنجلترا بنصيبها في النهضة الرومانسية التي كانت حركة أدبية دولية ساهمت فيها سائر الآداب الأوربية والأمريكية
على إن كل ذلك لا يكاد يتخطى حدود التقدير والإعجاب بذلك الأدب، ولم يتعدى ذلك إلى إحداث ثورة شاملة أو تطور خطير في تلك الآداب، ولم يؤثر الأدب الإنجليزي فيها بعض ما أثرت هي فيه، فهو قد جاء متأخراً عنها قليلاً ولحق بها فتشابه الجميع اليوم رقياً، فهي