للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لست أقول إني غير قابل أو مستعد للغرور أو عرضة له، فإني كغيري في هذا، والغرور لازم لإطاقة الحياة، وبغيره لا أدري كيف يطيق الناس عيشهم. ولكني لا أزال أدير عيني في نفسي وأتأملها وأفحصها وأنكت تربتها كما ينكت المرء الأرض بطرف العصى، وأخلق بهذا أن يكشف للإنسان عن حقائق غير التي يزيفها أو يموهها الغرور. . وأول ما يعرفه المرء - بفضل الفحص المتواصل والتدبر المستمر - هو حدودها، ومتى عرف المرء حدود نفسه فأيقن أنها لن تغيب عن عينه قط. . وقد يعالج توسيعها وإفساح ما بينها. . ولكنها تظل ماثلة أبدا. . والشعور بهذه الحدود كرب وبلاء. . والجهد الذي يبذله الإنسان لعلاج النقص الذي يشعر به في نفسه كرب آخر. . آلة محدودة القوة تريد أن تبلغ بها ما تستطيعه آلة أخرى أقوى منها. . هذا الجهد ماذا تظنه يكلف الآلة المسكينة المحدودة القوة والعزم. . وفوق كل قوة أخرى أعظم. . وتجاهد حتى تبلغ بنفسك فوق ما كان ظنك أنها قادرة عليه فلا تقنع بهذا. . لأن هناك مرتبة أعلى ومنازل أخرى أسمى، فأنت لا تزال تستحث نفسك وتدفعها وتخزها. . ولانهاية لهذه الدائرة. . وهذه هي حياتنا جميعا. . في الحقيقة والخيال. . محاولات مستمرة لعلاج ما نحسه من نقصنا. . ولا يخلو هذا من جانبه المضحك. . فقد يعيينا أن نصلح الفاسد ونعالج الضعف، أو أن نعوضه من ناحية أخرى قابلة للزيادة والنمو فنروح نستر العيب أو الضعف أو النقص سترا نظنه وافياً كافياً أو نحتال لنبدو كأن قوتنا هي في هذه الناحية التي نعرف ضعفنا فيها. والإنسان ليس بشيء إذا لم يكن منافقاً مرائياً ودجالا كبيرا).

فقال صاحبي: (أو لا يدرك المرء حدود نفسه إلا إذا دأب على إدارة عينه فيها؟)

قلت: (لا. . ليست هذه سوى طريقة واحدة لمعرفة النفس، ومثلنا العامي يقول إن سكة أبي زيد كلها مسالك. ولا أعرف من هو أبو زيد هذا. ولكني أعلم أن المعرفة سكتها كثيرة المسالك. ومن المسالك التجربة والمعاناة. والتجربة تتيح للإنسان أن يقيس ما عنده إلى ما عند سواه فيعرف في أية ناحية قوته، وفي أي النواحي نقصه وضعفه وتقصيره. . وأعترف لك بحقيقة. . لقد كنت في سني وفي ميعتي يهولني أن أرى نفسي عاجزاً عن الحب الذي أرى غيري قادراً عليه. . . نعم كنت أشعر بالإعجاب وبسحر الجمال وفتنة الحسن، ولكن شعوري هذا كان لا يطول ولا يلبث أن يفتر. . ولم يكن الحب عندي أكثر

<<  <  ج:
ص:  >  >>