للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ألا تنظر الأنهار تنضب في مجاريها، والبحار تجف في قيعانها، وهذا الكوكب المتلألئ في السماء أخرت يد الزمن ولادته، وهذه الشمس، وما أشبهها بنا! إنها تسير إلى الفناء والعدم، وفي السماء حيث الأموات ينتظرون يوماً به ينعمون.

تأمل حواليك الطبيعية. مرت الأجيال فتكاثفت أتربتها. وتحولت الأعوام إلى ذرات غبار تناثرت في فضائها

إن الزمن بخطوة واحدة يذل من كبريائك، يخمد عزة نفسك، ويطفئ جذوة اشتعالك، يقبر في جوفه العميق الحوادث، ويرمس في لحده المخيف الأيام.

ولكن الإنسان، الإنسان وحده، المجنون الأكبر في هذا الكون! إنه ليظن أن القبور لتسعد بسكانها، ويأمل أن يعيش الحياة ثانية فيها، فيظفر طياتها بالحياة أثر الحياة، ويحلم بالأبدية والخلود، وهو كريشة في مهب زوبعة العدم الهائجة

ليجبكم غيري، يا عقلاء الأرض، يا مدعي الفلسفة. اتركوا لي خطأي، فأنا أهوى فلذا آمل، فإذا كان الخلود خطيئة لا توجد مرسومة إلا في بعض العقول دون أخرى، فكم هذه الخطيئة عزيزة لدي!

اتركوني أيها العقلاء أنعم بجانب ضلتي، إني أحب أن أتمنى وأن أعلل الأشياء، إن عقلنا الضعيف المضطرب يتحير. بلى إن عقلنا ليمسك عن الكلام أمام حججكم، ولكن الإدراك يجيبكم

أما أنا، عندما أرى الكواكب تسبح في السماوات العلى، والنجوم تنحرف عن طرفها المدبرة وسبلها المقررة، واشهد النجم في حقول الأثير اللانهائية يناطح النجم، والكوكب يركض أثر الكوكب، فأنصت لصراخ الأرض، واستسكن لسماع صرخاتها المتوالية تتنهد، وقد شق جوفها، ومادت كرتها هائمة تضطرب، بعيدة عن السماوات وشموسها، تبكي الإنسان المحطم، أبنها العاني، المسرع في طريق الموت الذي هام في حقول الأبدية المظلمة، عندها أكون الشاهد الأخير، والحاضر الفرد، وقد احتاطني المدلهمات، وأمسك بيدي الموت إلى جوف الظلمات. وبالرغم من ضعفي سأنهض واثباً، لا خوف يدب إلى قلبي، ولا ذعر يمسك علي فؤادي، أفكر فيك، أرقب بفارغ الصبر عودة الفجر الأبدي ليضيء العالم المحطم، حيث أرقب لقاءك وأرجو زورتك

<<  <  ج:
ص:  >  >>