تقدماً عظيماً، في حين أن كل ذلك لا يزال محدوداً في سورية والعراق
فيجدر بنا أن نتسائل عن أسباب هذه الأحوال والحوادث المتناقضة: كيف أن مصر حافظت، ولا تزال تحافظ، في دواوينها الرسمية على هذه المصطلحات الأعجمية، بالرغم من قدمها في الانفصال وتقدمها في فصاحة القلم واللسان؟ وكيف أن حكومات سورية والعراق - بعكس ذلك - تخلصت في دواوينها من جميع تلك المصطلحات، بالرغم من قرب عهدها في الانفصال وحداثة دخولها في مضمار فصاحة الإنشاء والبيان؟
إننا نعتقد بأن أسباب ذلك تعود إلى تباين الظروف التي حدث فيها انفصال هذه الأقطار العربية المختلفة عن الدولة العثمانية: فان انفصال مصر حدث قبل أن يستيقظ الشعب يقظة مقرونة بشعور قومي واضح، وللغة العربية استولت على الدواوين المصرية بصورة تدريجية، دون أن تضطر إلى الاصطدام مع اللغة التركية والقيام عليها بحركة عنيفة. وهذا ما جعل مصر متساهلة مع الكلمات التركية ومضيافة لها، بل لا نغالي إذا قلنا: غير منتبهة إلى أعجميتها.
وأما انفصال سورية والعراق عن الدولة العثمانية، فلم يحدث إلا بعد حوادث كثيرة أدت إلى أيقاظ الشعب يقظة مقرونة بشعور قومي واضح واللغة العربية لم تصبح رسمية هناك إلا بعد أن حدثت مشادة بينها وبين التركية وبعد أن مازج هذه المشادة شيء غير قليل من العنف من الطرف الواحد ومن الثورة من الطرف الآخر. فقد قامت في سورية والعراق، وفي أواخر العهد العثماني، جمعيات عديدة تطالب بـ (حق التعلم والتعليم بالعربية)، تارة بالطرق السياسية، وطوراً بالطرق الثوروية. ولم تنل تلك البلاد هذا (الحق) بصورة فعلية إلا بعد الحرب العالمية، فعندما تألفت الحكومة العربية بجد وحماس؛ فلا نغالي إذا قلنا أن المصطلحات التركية خرجت من الدواوين هناك مع خروج الموظفين الأتراك منها.
والحكومة العراقية التي تأسست بعد سقوط الحكومة العربية السورية أيضاً حذت حذوها ف هذا الباب؛ وزيادة على ذلك وجدت أمامها متسعاً من الوقت لإتمام عملها في تكوين مجموعة المصطلحات الإدارية والعسكرية من الكلمات العربية التي لا تشوبها شيء من الأعجمية
هذه هي سلسلة الحوادث والأسباب التي وجهت الأمور في سورية والعراق إلى اتجاه