للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أبنائه: ففي الأشعار التي تندب مصارعهم - رغم اتسامها بالحزن والفجيعة، وقلة ما تسجله من عظائم أولئك الأبطال الذين نهضوا في الحقبة بعد الحقبة، وساروا إلى الموت مملوءين ثقة وبسالة - تمجيد صادق الشعور للمثل العليا مشخصة في أولئك النفر الغر الميامين، ولدعبل وابن الرومي وغيرهما أشعار حارة فيهم، ومن ذلك قول الأول:

وليس حي من الأحياء نعلمه ... من ذي يمان ومن بكر ومن مضر

إلا وهم شركاء في دمائهم ... كما تشارك أيسار على جزر

قتل وأسر وتحريق ومنهبة ... فعل الغزاة بأرض الروم والخزر

وسبب آخر عظيم الأثر في خلو الأدب العربي من تمجيد البطولة، هو أن هذا الضرب فني يحتاج في ممارسته إلى تفرغ وطول معاناة وكثرة مراجعة، ومثل هذا الفراغ لم يتهيأ لأدباء العربية، ومثل هذا العكوف أو الترهب الفني الذي حظي به ملتون ووردزورث وتنسيون وغيرهم من شعراء الإنجليزية لم يفز به شعراء العرب وكتابهم، أضف إلى ذلك أن الأدب العربي كان دائماً يؤثر التقليد ويحجم عن اتخاذ مواضيع أو صور جديدة لم يرثها العرب الأولين، ولهذه النزعة المحافظة قد نفي من حظيرته كثيراً من فنون القول ومنادح الفن، لم يرها من شأنه ولم يحسبها جديرة بالتفاته، لأنه لم يرثها عن الأقدمين ولم يطلع على أدب الإغريق فيقف على بدائع النظم التي تأتي من ذلك الباب

وكان الأدب العربي كلما نفي من حظيرته باباً من أبواب القول يمت إلى الطبيعة الإنسانية بسبب لا يجذ، ويروي من النفس البشرية غليلاً دائم الحاجة إلى الري، تلقفه عن الأدب العامي فنهض عنه بالعبء الذي طرح، وآثر إرضاء النفس الإنسانية حين آثر الأدب الفصيح إرضاء التقاليد، ومن ثم حلك الأدب العامي، أو الخيال العربي، حول أبطال الجاهلية كعنترة وكليب، وعظماء الإسلام كعلي بن أبي طالب وهارون الرشيد، روائع قصص البطولة ومنازلة الصناديد ومقابلة الأنس والجان واجتلاء أسباب المتعة والبهجة والفكاهة؛ وما كان بالأدب العربي الفصيح قصور عن ذلك الضرب من القول لو أراده. انظر إلى روعة الوصف في قول المتنبي:

خميس بشرق الأرض والغرب زحفه ... وفي أذن الجوزاء منه زمازم

وقول ابن هانيء الأندلسي في جيش جوهر:

<<  <  ج:
ص:  >  >>