جارفاً. وهذا أنا أخرج من المدرسة في أصيل هذا اليوم يائساً أشد اليأس، حزيناً أشد الحزن، أسرع الخطا ثم أبطئها، أسرع لأني أريد أن أعلم ماذا كان مصير أمي، ثم أحس كأن شيئاً يرد من خطاي ويصدني: لقد كان الشك يغمر نفسي
أذكر أن الشمس كانت جانحة إلى المغيب تلقي على طرق المدينة أشعة صفراء باهتة حزينة، وإني لازلت إلى الآن تفيض نفسي بالكآبة كلما رأيت مغرب الشمس.
وفي أول الطريق الذي ينتهي إلى بيتنا قابلني عمي ثم أجلسني إلى جانبه في دكان صغير هناك وجاء أحد الجيران يشتري بعض حاجة من الدكان، فألقى إلي نظرة ومال برأسه إلى صاحبه كأنما يسأله عن شيء، وهز صاحب الحانوت رأسه ومص الجار شدقيه راثياً، وقمت من مكاني وانفجرت باكيا وجريت إلى البيت لأسترسل في البكاء
وهناك كانت نسوة كثيرات - في ثياب سود - حاولن عبثاً أن يكفكفن من عبراتي. وهناك كانت أختي الصغيرة مدهوشة حيرى لا تدري ماذا جرى. وهناك كانت أختي التي تكبر هذه - في هدوئها وسكونها الدائمين - تسكب عبرات صامتة
وكانت ليلة. . .
- ٣ -
وأصبح الصباح فإذا الشمس مشرقة كعادتها، وإذا بي أسير إلى المدرسة محني القامة خافض الهامة، أفكر فيما كان وفيما سيكون
وابتدأ الدرس الأول، وكان درس القواعد العربية، وإني لأذكر تماما الشيخ عبد الحميد رجلا قصير القامة مكور الوجه قاسيا، وأذكر أنه كان في هذا الصباح جاداً في إلقاء الدرس وشرح ما غمض منه على السبورة، ولكني لا اذكر ما هو الدرس الذي كان يلقيه، إذ أني نسيت - فيما نسيت - هذا الباب الذي من أمثلته (حضرموت وبختنصر)، ولكن ماذا يهمني من هذا، إن ما يزال عالقاً بذهني هو أني انتبهت لحظة للشيخ وللدرس، ورفعت نظري إلى السبورة أمامي فوجدت هاتين الكلمتين (حضرموت - بختنصر)
تأملت الكلمة الأولى وقرأتها هكذا (حَضَرَموْت) ثم بدأت أقول في نفسي:
- يا ما أسعد من لا تموت أمهاتهم! وهؤلاء الذين يحضرون موت أمهاتهم إنهم أسعد مني حالا، أنا الذي لم يحضر موتها ولا يدري ماذا مصيرها