للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

العرب على ثقافات الأمم كان أهم ما احتفوا بنقله من آدابهم الحكمة. ومن كتب الحكمة مؤلفات ابن المقفع ومقصورة ابن دريد والخطب المنسوبة إلى قس ابن ساعدة والإمام علي، والجم الغفير من أشعار المتنبي التي سارت مسير الشمس؛ وليس من محض الصدفة أن كان أكبر شعراء العربية وأسيرهم ذكراً حكيما مكثراً لصوغ الحكم وضرب الأمثال. وبالحكمة الصادقة البليغة الموجزة كان الأديب العربي يستغني عن فنون وأشكال من الأدب ازدهرت في الإنجليزية، كالقصة والرواية التمثيلية والملحمة، فالعبرة التي تنطوي عليها إحدى هذه يجمعها الشاعر العربي في بيت واحد يلقيه إليك وخلاه ذم

واقتباس الحكمة والمثل والاستشهاد بأقوال السلف أقل حدوثا في الإنجليزية منه في العربية، لأن الحكم الموجزة التي تغزر في الأخيرة قليلة في الأولى. وكثيراً ما يلجأ المقتبس في الإنجليزية إلى الأدبين الإغريقي واللاتيني، وحتى هذا يبطل تدريجياً في العصور الحديثة. واكثر أدباء الإنجليزية حظوة لدى المقتبسين والمستشهدين شكسبير، وليس ذلك لأنه كان يتعمد صوغ الحكمة أو يحرص على التكثر منها، بل لأن رواياته من جهة قد أحاطت بشتى أحوال الحياة والنفس الإنسانية، بحيث يجد فيها كل كاتب شيئاً مقاربا لما هو بصدده، ولأن مقدرته اللغوية العظيمة من جهة أخرى كانت تهديه إلى صوغ أفكاره صياغة موجزة ممتنعة؛ ويليه سيرورة أقوال بوب، زعيم الأسلوب المحكم الرصين الذي كان شعاره في الأدب التعبير (عما قيل من قبل كثيرا، ولكن لم يقل أبدا بهذا الإحكام)، فسار كثير من أبياته المحكمة الموجزة على الأقلام والأفواه

ومما يتصل بالحكمة في الأدب العربي ويمتاز هذا الأدب به التمدح بحميد الخصال كالجود والشجاعة وحمي الذمار وحسن الجوار وحفظ السر وكظم الغيظ ومداراة السفيه، إلى غير ذلك من الدساتير الخلقية التي كان كثير من أشراف العرب الأدباء يسنونها لأنفسهم، وامتداح تلك الصفات في الغير والحث عليها، وهذا من أنبل مواضيع الأدب العربي، ولحاتم الطائي ومسكين الدارمي والمقنع الكندي والشريف الرضي والإمام الشافعي آثار في ذلك، تروع برصانة أسلوبها ومتانة أسرها وعظمة خلقها؛ فلما غلب التقليد على الأدب، ودخل الشعر في طور التقهقر انقلب مثل هذا التمدح المحبوب الصادق المقرون بالفعال فخرا عاجزا أجوف، بمآثر وهمية وعزائم مزعومة، وتيها على النجوم ودلا على الزمان،

<<  <  ج:
ص:  >  >>