للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ورأيت شيخنا كأنما وضع له رئيس التحرير مثل البارود في دماغه ثم أشعله. فأردت أن أمازحه وأسري عنه، فقلت: اسمع يا أبا عثمان. جاءتني بالأمس قضية يرفعها صاحبها إلى المحكمة، وقد كتب في عرض دعواه: إن جار بيته غصبه قطعة من أرض فنائه الذي تركه حول البيت، وبنى في هذه الرقعة داراً، وفتح لهذه الدار نافذات، فهو يريد من القاضي أن يحكم برد الأرض المغصوبة، وهدم هذه الدار المبنية فوقها، و. . و. . وسد نافذاتها المفتوحة. . .!

فضحك الجاحظ حتى أمسك بطنه بيده وقال: هذا أديب عظيم كبعض الذين يكتبون الأدب في الصحافة؛ كثرت ألفاظه ونقص عقله. (وسئل بعض الحكماء: متى يكون الأدب شراً من عدمه؟ قال: إذا كثر الأدب ونقصت القريحة. وقد قال بعض الأولين: من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه؛ كان حتفه في أغلب خصال الخير عليه؛ وهذا كله قريب بعضه من بعض

والأدب وحده هو المتروك في هذه الصحافة لمن يتولاه كيف يتولاه إذ كان أرخص ما فيها، وإنما هو أدب لأن الأمم الحية لا بد أن يكون لها أدب. ثم هو من بعد هذا الاسم العظيم ملء فراغ لا بد أن يملأ. وصفحة الأدب وحدها هي التي تظهر في الجريدة اليومية كبقعة الصدأ على الحديد تأكل منه ولا تعطيه شيئاً.

ثم يأبى من تترك له هذه الصفحة إلا أن يجعل نفسه (رئيس تحرير) على الأدباء، فما يدع صفة من صفات النبوغ ولا نعتاً من نعوت العبقرية إلا نحله نفسه ووضعه تحت ثيابه؛ وما أيسر العظمة وما أسهل منالها إذا كانت لا تكلفك إلا الجراءة والدعوى والزعم، وتلفيق الكلام من أعراض الكتب وحواشي الأخبار

وقد يكون الرجل في كتابته كالعامة، فإذا عبته بالركاكة والسخف والابتذال وفراغ ما يكتب؛ قال: هذا ما يلائم القراء. وقد يكون من أكذب الناس فيما يدعي لنفسه وما يهول به لتقوية شأنه وإصغار من عداه، فإذا كذبه من يعرفه قال: هذا ما يلائمني. وهو واثق أنه في نوع من القراء ليس عليه إلا أن يملأهم بهذه الدعاوى كما تملأ الساعة، فإذا هم جميعاً يقولون: تك تك. . تك تك. . . . .

فمن زعم أن البلاغة أن يكون السامع يفهم معنى القائل؛ جعل الفصاحة واللكنة والخطأ

<<  <  ج:
ص:  >  >>