للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

مدرسة الطب، وكان أبوه طبيباً فلم يجد الولد في نفسه ميلاً إلى الطب ورجا والده أن يدخله في معهد الموسيقى فرفض وهدده بقطع مرتبه، ولم يستطع الابن أن يستمر في الطب فدخل الكونسرفاتورا. فما كان من والده إلا أن قطع مرتبه، فأضطر أن يعطى دروساً موسيقية بفرنك واحد للدرس، واستمر في دراسته وهو يغالب الزمن للحصول على قوته حتى نبغ، وهو الذي ابتدع الرومانتيزم في الموسيقى في فرنسا.

والمثال الثاني يبين لنا اهتمام الهمج بالموسيقى بدرجة لا تجدها في المصريين.

كنت في صغري أقضي عطلة المدارس في قريتنا بين أهلي، وكان منزلنا في ربوة عالية تشرف على جميع القرية، وكان في الحي الذي يلينا بيت تسكنه فئة من العبيد يحيون الليل جميعه في الغناء والعزف والرقص إلى أن تطلع الشمس، ثم يذهبون إلى عملهم وهو التجوال في القرى لجمع (البجم) من أشجار الأثل بقصبة طويلة بطرفها شص كبير وهو يستعمل في الصباغة.

كنت في الصغر طلعة أحب الوقوف على كل شيء، وكنت أرقب هذا البيت الصادح الباغم من الأصيل بمنظار، فكنت أرى النساء يكنسن فناء الدار ثم يرشونه ويفرشون الحصر ويصفون الآلات الموسيقية من دلوكات وطبول مختلفة الأنواع والكستلوفون الفطري المصنوع من قطع الخشب الرنانة المختلفة الاحجام، والكيزان الصفيح المحشوة بالحصى الصغير يحملونها في أيديهم ويهزونها لتحدث (دوكة) مخصوصة وقت التوقيع. وحينما يقبل رجالهن بعد الغروب يهيئن لهم ثريد العدس، ثم يصف أقداح البوظة، ثم يدخنون ويتسامرون ساعة إلى أن يأتي وقت الموسيقى فينشطون لها ويأخذ كل منهم آلته الموسيقية ويتهيأ الباقون للرقص والغناء، ويستمرون في لهوهم إلى مطلع الشمس دون أن يناموا، ثم يذهبون إلى عملهم ويقنعون بأن يقيلوا ساعتين بعد الغداء في ظل شجرة.

إن الموسيقى الشرقية كنز زاخر بالجواهر واللآلئ واليواقيت، ولكننا لا نعرف كيف نستخرجها ونبريها بذوق سليم حتى تليق لأن نزين بها تيجان الملوك. إن للموسيقى العربية مائة نغمة (مقام) أو اكثر من مائة وزن (الضروب) ولكن اين النابغة المثقف الذي يحسن التأليف والتلحين.

إن بعض الملحنين ينزعون في تلحينهم إلى اختطاف ألحانهم من الإلحان القديمة، ثم

<<  <  ج:
ص:  >  >>