كان العرب في الجاهلية في قتال لا يكاد يهدأ، وكانت بين قبائلهم وأشرافهم ثارات وعداوات لا تكاد تنتهي حتى اضطروا أن يتخذوا لهم موضعاً حراما ووقتاً حراماً ما تهدأ فيه الخصومات وتغمد الصوارم وتتصل أسباب الحياة والتعاون، وبالتمدح بالنصر في تلك الحروب والتفاخر بأيامها والتوعد والتربص، كان أكثر ما قيل من شعر في الجاهلية. وظلت لهذا الباب من الشعر المسمى بالحماسة مكانته بعد انقضاء عهد الجاهلية بطويل، وبه بدأ أبو تمام مختاراته الشعرية وبه سماها، وكثر في الشعر الجاهلي ذكر السيوف والرماح والخيول وغيرها من وسائل الحرب، وكثرت في العربية أسماؤها وأوصافها، وارتقى بين العرب البصر بالحروب وتأصلت فيهم ملكاتها، حتى أخرجت الجزيرة صناديد الإسلام الذين اصطلموا كتائب قيصر وآل ساسان، ومن الشعر الذي يعرض صور حروب ذلك العهد ومعلقة عمرو بن كلثوم الذي يقول منها:
على آثارنا بيض حسان ... نحاذر أن تقسم أو تهونا
وكنا الأيمنين إذا التقينا ... وكان الأيسرين بنو أبينا
وكانت الرسالة النبوية، وكان صاحبها يجمع إلى عبقرياته العظيمة المتعددة التي لم تجتمع لإنسان، البصر بالحرب والبلاء فيها فتخلف من أشعار ذلك العهد ولاسيما شعر حسان أثر ما كان بين المسلمين والكفار من كفاح؛ حتى إذا ما وحد الإسلام قلوب العرب انصرفوا إلى جهاد أعداء الدين، ومن عجب أن عصر الفتوح الباهر الذي تلا ذلك لم يترك في الأدب العربي إلا أثراً ضئيلا. وليس امتلاء النفوس برهبة الدين هو كل السبب في ذلك، بل يرجع ذلك أيضاً إلى جدة الحالة التي وجد العرب بها أنفسهم: من قتال أمم مخالفة لهم في الجنس واللسان والمسكن ووسائل القتال، ولعلهم لم يجدوا من اللذة والغبطة ودواعي الفخار في اجتياح تلك الجيوش المرتبة، ما كانوا يجدونه في مصاولاتهم البدوية المملوءة بالكر والفر والمساجلات الفردية.
وأهم من هذا وذاك أنهم لم يتعدوا الفخر بالأعمال القومية، التي يشترك في فخارها المضرى والبكري والتغلبي، ولم يتعودوا أن ينضموا القصيد في الفخر على أعجمي، وإنما هم كانوا يترفعون على الأعجمي ترفعاً بديهياً بسيطاً لا يتكلفون له عناء النظم، ولا يحتفون