وقد هيأ له منفاهُ - الذي لم يك قاسياً جداً - فرصة لمشاهدة بلاد القوقاس والقرم وبراري صربيا، حيث عاش تلك العيشة التي التمستها بيرون ثم ظفر بها في ألبانيا، وكان بوشكين مسحورا ببيرون، وما سحره منه أسلوبه الشعري، بل بساطته وإخلاصه وعنف عواطفه. وفي سنة ١٨١٩، دخلت الترجمة الفرنسية لكتاب بيرون روسيا، فرحب بها هو وطائفة من أصدقائه الأدباء ترحيبا حماسيا، بالرغم من سقمها وركاكتها، وبلغ من إعجاب الشاعر الروسي العظيم بالشاعر الإنجليزي أنه أخذ نفسه بتعليم الإنجليزية ليقرأه بلغته الأصلية، ولكن أسرار النطق الإنجليزي كانت تحيره وتربكه، حتى أن أصدقاءه الذين تعلموا الإنجليزية منذ طفولتهم كانوا إذا سمعوه يقرأ عليهم شكسبير لا يملكون أنفسهم من الإغراق في الضحك لأنه ينطق بالألفاظ الإنجليزية كأنها لاتينية!
تأثر بوشكين ببيرون ولم يقلده - فما كان مقلداً وإنما كان مستعدا على الدوام لأن يتعلم ليس غير - وظهر هذا التأثير في قصيدتيه (سجين القوقاس) و (نافورة باختشيساراي). على أن التشابه قليل والفرق واضح بين الشاعرين: فبوشكين أرق وأودع، وفكاهته النادرة أعمق، في غير إيلام، وفهمه لطبائع الشعوب وخصائص البلدان أوسع وأبعد مدى.
بيد أن تأثير بيرون زايل شاعرنا بالتدرج حتى إذا بدأ بتأليف قصته الشعرية (إفجيني أونيجن) لم يكن بقي منه شئ. وتعد هذه القصيدة أول ما ألف من القصص الروسي الجيد، وكان ترجنيفا يقول إن أربعة أبيات من مقدمتها تفضل آثاره جميعاً، وكان يجد لينين في صفحاتها مريحاً من عناء العمل، وقد سمى القيصر نقولا الثاني ابنتيه الكبريين - تاتيانا وأولغا باسمي الأختين في الرواية
ومع ذلك كان بوشكين يفضل عليها قصيدته (بوريس جودونوف)(١٨٢٥). و (بولتافا)(١٨٢٨)، والأخيرة قصيدة تاريخية تصور النزاع بين بطرس الكبير وتشارلس الثاني عشر ملك السويد
أما الأولى فقد نظمها في (ميخيلو فسكوى) وهي بيعة لأبيه، كان الشاعر نفي إليها بعد عودته من منفاه الأول لوقوع السلطات على رسالة له فيها ما يكرهون. وفي هذه الأعوام اشتد تركيز ذهنه وتمت له السيطرة على صناعته، وقوى فيه الشعور بقيمة اللفظ في