استقبله حالان حسنان أو خلقان حسنان كان مع الأحسن. على حين أن الفقير والزاهد لا يميزان بين الحالين الحسنين أو الخلقين الطيبين. بل هما يختاران من الأخلاق ما هو ادعى إلى الترك والخروج عن شواغل الدنيا حاكمين بعلمهما. وعلى العكس من هذا ترى أن الصوفي يحكم على الأشياء ويستبين الأحسن بما أُلهم من عند الله مستعينا في ذلك بصدق التجائه وحسن إنابته وعلمه بربه. وبعبارة أخرى يمكنك أن تقول أن الصوفي لا يرى في الأشياء إلا ما يظهره الله عليه ولا يحكم عليها إلا بما أوحى إليه. فالتصوف على حد قول رويم ليس إلا استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريد. أو هو كما قال بعضهم أوله علم وأوسطه عمل وآخره موهبة من الله تعالى. والصوفي - كما قال سهل بن عبد الله - هو:(من صفا من الكدر. وامتلأ من الفكر وانقطع عن البشر. واستوى عنده الذهب والمدر)
وخلاصة هذا كله هي أن الفقر أساس التصوف وقوامه. وأن التحقق بأحوال التصوف ومقاماته بني على الفقر والزهد فيما اشتملت عليه الدنيا من زخرف ومتاع. وقد قص علينا مؤلف عوارف المعارف قصة رويت عن ذي النون المصري، ولا بأس من إيرادها فهي تظهرنا على ما انطوت عليه نفوس الصوفية من تمسك بالفقر، وإمعان في الزهد، وإغراق في الإعراض عن ملذات الدنيا وشهوات النفس.
قال ذو النون: (رأيت ببعض سواحل الشام امرأة فقلت: من أين أقبلت؟ قالت: من عند أقوام تتجافى جنوبهم عن المضاجع، فقلت: وأين تريدين؟ قالت: إلى رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. فقلت: صفيهم لي. فأنشأت:
قوم همومهم بالله قد علقت ... فما لهم همم تسمو إلى أحد
فمطلب القوم مولاهم وسيدهم ... يا حسن مطلبهم للواحد الصمد!
ما أن تنازعهم دنيا ولا شرف ... من المطاعم واللذات والولد
ولا للبس ثياب فائق أنق ... ولا لروح سرور حل في بلد
إلا مسارعة في أثر منزلة ... قد قارب الخطو فيها باعد الأبد
فهم رهائن غدران وأودية ... وفي الشوامخ تلقاهم مع العدد
فهذا الشعر وان كان ركيكا مهلهلا ضعيفا إلا أنه يصور لنا في وضوح نفوس الصوفية