شوقي ساعدته في استنزال المعاني أكثر مما توفر الأمر لحافظ. ولسنا ننفي عن حافظ اصطياد هذه المعاني المبتكرة، إلا أنه لم يكن موفور التوليد فيها. فاللفظ وحسن الصياغة كانا يشغلانه عن المعنى. وهو لو كان يجيد لغة أجنبية، لو اطلع على أدب الغرب مثله على أدب العرب لبات أوسع خيالاً وأشد عمقاً في منظومه، إلا أن جهله اللغات الأجنبية وقف به عند الأدب العربي، فما تفتحت عيناه على آفاق بعيدة يخلو منها أدبنا القديم. فكان يجتهد في الاقتداء ببشار وبالمتنبي في صياغتهما. ويميل عن كل إسفاف في المبني، وهذا المجهود من حافظ في إنقاذ آثاره من الضعف اللغوي أهاب بشوقي إلى الانعكاف على درس اللغة ليدفع عن قصائده هذا الشين
وإن يكن لابد من المقارنة بين شاعرين عاشا في عصر واحد واندفعا في طريق يكاد يكون واحداً في ما نظما وأطلقا من خراطرهما قلنا إن شوقي يتقدم حافظاً في معانيه وموسيقى ألفاظه، فيحلق في جو أسمى من جو حافظ، فكأنه يملك جناحين أوفى انبساطاً، وأشد عزماً، كأنه كتلة من أعصاب تأبى إلا أن تندفع إلى الأعالي تقع فيها على كل جديد، فترى وتلمس ما لا يتفق لسوى من ملك قوتها في اقتحام مسبح الفلك. وحسب شوقي أن يرصع صدر الملعب العربي بتلك الروايات التمثيلية. فشاء بها أن يضارع كبار شعراء العالم أمثال شكسبير وكورناي وراسين وفولتير وفكتور هيغو، فما (مجنون ليلى) غير (روميو وجوليت) لشكسبير، وما (كليوباترة) غير (أندروماك) لراسين
وحافظ لم يخترق هذا الجو، فاكتفى بالديباجة الفخمة، بعظمة الجند، بالشارات العسكرية البراقة، فأنت تحس وأنت تقرأه بأنك أمام شاعر يتقلد سيفاً ويعلن أمراً. فلا محاباة ولا مصانعة، بل قوة جياشة تدعوك إلى الاصغاء بكلام طنان ثابت في مواضعه كأنه صب فيها صباً. والأوامر العسكرية معروفة لا زخرف فيها ولا طلاء بل فخامة وقوة. وهذه الأوامر غلبت على شعر حافظ كما غلبت على شعر البارودي فمالت بهما عن التغريد المتعالي من شعر شوقي والخيال المغلف به منظوم شاعر الأمير
إذاً شوقي هو المتفوق. وشوقي روح عصر الانبعاث في مطلع القرن العشرين. فهو مرآة الشعر في هذا الزمن. ومن ينظر في نتاج قرائح شعراء اليوم يقبل على شوقي في الطليعة ومن المحال أن ننسى خليل مطران. على أن المفاضلة تتناول في مبحثنا حافظاً وشوقي