وقد توفي من خيرة الأساتذة المستشرقين (جولدسهر ونولدكه شبيجلبرج وبيجر وهورديتس) دون أن يأتي غيرهم فيملأ الفراغ الذي تركوه في شتى العلوم التي كانوا يضحون حياتهم في سبيلها. وأما الآن فنجد عدداً غير قليل من الأساتذة يملئون أروقة الجامعات في ألمانيا وهم من الذين يناصرون الحزب الذي يقبض الآن على ناصية الحكم في البلاد. . . هذه الأفكار أخذت تقلق بالي في تلك اللحظات التي قرأت في الجرائد الألمانية عن وفاة العالم برجستريسر.
نشأ الأستاذ برجستريسر في أسرة ألمانية مسيحية بروتستانتية وكان أبوه وجده قسيسين في مدينة بلون
من أعمال زكسن بألمانية، ومن هنا يسهل فهم سبب عناية والديه بتربيته الدينية في المدرسة الابتدائية والثانوية، إذ أراد أن يحقق أمنيتهما حتى يكبر تقياً ويصبح صالحاً لرداء الكهنوت ويكون خير خلف لخير سلف، ولكن جوتهلف برجستريسر مال عن هذه الرغبة إلى البحث في اللغات السامية والعلوم الإسلامية حين دخل في جامعة ليبزيج في سنة ١٩٠٤ وقد درس آداب اللغة العربية عند العالم أوجست فيشر الذي يعتبر إلى يومنا الحالي من قادة النقاد لدى جمهرة المستشرقين، وقد أثرت روح النقد في جستريسر حتى أضحت على كر الزمن من مميزاته البارزة لا في الكتابة وإلقاء المحاظرات فحسب، بل أثناء محادثاته العادية مع محدثيه، كانت لا تفوته كبيرة أو صغيرة دون أن يتعرض لها إذا وجد مجالا للمعارضة أو الانتقاد.
ونذكر بهذه المناسبة إن فيشر، شيخ النقاد، كان على الدوام ينتقد بكل شدة مؤلفات المستشرقين حتى هابه عظماء العلماء في العصر الحاضر، على إن فيشر لم يؤلف المؤلفات الكبيرة كما فعل العلماء الذين انتقد مصنفاتهم بل كان يكتفي بوضع المقالات، وأخذ بعض العلماء يهزءون به ويقولون أن فيشر لا يحب أن ينشر كتبا خوفا من شبح النقد وانتقام النقاد، ومن أكبر عيوب أوجست فيشر أنه بدأ يدون جملة كتب في موضوعات شتى منذ سنين كثيرة ولم ينته منها، إذ من المعلوم انه يعمل منذ ثلاثين سنة في تأليف قاموس عربي علمي دقيق للشعر العربي القديم لم يطبع إلى الآن، وكذلك بدأ في مراجعة جملة مخطوطات لكتاب المغازي للواقدي منذ أمد بعيد وإلى الآن لم ينته منه أيضاً. وكان