إذ ذاك ازدهاراً عظيماً، وتختص بالأول القصائد المرسلة طويلها وقصيرها؛ وفي القرن الثامن عشر هبط فاضمحلت فيه النزعة الذاتية، وأصبح أكثره موضوعياً مبهماً، واحتل مكانه النثر وشمل شتى النواحي الذاتية والموضوعية، ففي الأولى كتب كاولي وأديسون وستميل كثيراً من مقالاتهم، وفي الثانية كتب جيبون وبوزويل ورتشاردسون وديفو وآخرون لا يحصون كتبهم في التاريخ والترجمة والقصص والمغامرات. فلما كانت النهضة الرومانسية عادت للشعر أفضليته، وحفل بشتى الآثار الذاتية والموضوعية، بين وصف الطبيعة وسرد الخرافات الشائقة، ووصف تأثر النفس بهذه وتلك، وتمجيد الجمال وشرح أطوار الحب، ولم يزل الشعر والنثر منذ ذلك العهد فرسي رهان، يطرقان شتى المناحي بين ذاتيها وموضوعيها
بيد أن الذاتية مازالت منذ عهد شكسبير إلى العصر الحاضر تطغى على الموضوعية رويداً، وتستأثر شيئاً فشيئاً بالتفات الأدباء وتفوز بأشكال أدبية جديدة. ففي عهد شكسبير كان الروائي يحرك روايته حول أشخاص تاريخيين أو خرافيين بعيدين عنه بعداً كبيراً وفي القرن الثامن عشر عهد النثر الذهبي كان الأدباء يكتبون القصص يضمنونها من طرف خفي صوراً من حياتهم وجوانب من أنفسهم، فيكتب سمولت الأفاق قصة كونت فاثوم المغامر، ويكتب جولد سمث ابن القسيس قصة قس ويكفيلد التي ليست إلا حكاية عهد نشأته في أسرته، ثم يكتب تشارلز دكنز في القرن التالي قصة صباه في كتابه دافيد كوبر فيلد؛ ثم تزداد الذاتية بروزاً ويرفع الأدباء حجاب التخفي وينبذون الأسماء المستعارة، فيكتبون قصص نشأتهم ومذكرات رجولتهم وينشرونه رسائلهم وتراجمهم الشخصية، والأدب الإنجليزي المعاصر حافل بآثار هذه الذاتية السافرة
وقد امتازت بالذاتية الواضحة، أو الأنانية الأدبية، كثير من الأدباء الإنجليز، كانوا لا يملون التأمل في نفوسهم والتحدث عن ذواتهم صراحة أو تحت غشاء شفاف: فملتون يعرض لكوارثه وعماه ومبادئه السياسية والدينية والاجتماعية في ملاحمه الثلاث، ووردزورث يؤلف المطولات الشعرية في تصوير صباه وخواطره من طفولته إلى كهولته، وبيرون ينظم القصيدة تلو القصيدة ويصور البطل تلو البطل، ولا يزيد أن يتحدث عن نفسه وميوله وآرائه، وشلي يسمي نفسه (ارييل) باسم إله إغريقي، ويكتب عن نفسه تحت ذلك العنوان