نزعة دفاعية، بينما كانت الدولة البيزنطية تجيش في عهدها الجديد بنزعة إلى الفتح والتوسع. وكانت الخلافة الفاطمية تتوق إلى اتقاء الأحداث والحروب الخارجية لتتفرغ إلى تنظيم شؤونها الداخلية؛ فلما هزمت الجيوش الفاطمية جيوش الإمبراطور في الشام واستطاعت بذلك أن تثبت تفوقها العسكري، انتهز مدبر الدولة برجوان هذه الفرصة ليعقد الهدنة مع الدولة البيزنطية، فبعث إلى الإمبراطور يقترح عقد الصلح والمهادنة، فاستجاب باسيل الثاني لدعوته، وانفذ سفارة إلى بلاط القاهرة؛ واحتفى البلاط الفاطمي بالسفير البيزنطي احتفاء عظيما وزين الديوان الخلافي لاستقباله زينة تنوه الرواية بفخامتها وروعتها؛ وانتدب برجوان اريسطيس بطريرك بيت المقدس وخال الأميرة ست الملك ابنة العزيز بالله وأخت الحاكم بأمر الله للسير مع السفير البيزنطي وتقرير شروط الهدنة مع القيصر وعقد أواصر الصداقة بين الدولتين؛ فسار اريسطيس إلى قسطنطنية، وقام بالمهمة؛ وعقدت بين مصر والدولة البيزنطية معاهدة سلم وصداقة لمدة عشر سنين؛ وأقام اريسطيس في عاصمة بيزنطية أربعة أعوام حتى توفي؛ ولم تحدد لنا الرواية تاريخ هذه السفارة ولكن المرجح أنها وقعت في أواخر سنة ٣٨٩ أو أوائل سنة ٣٩٠ (سنة ١٠٠٠م)
وشغلت الدولة البيزنطية مدى حين بشؤونها الداخلية وحروبها في البلقان وأرمينية. وقنعت من الشام بإنطاكية، وهدأ النضال بين الدولتين حيناً، وتحسنت العلائق بينهما؛ ولكن سياسة الحاكم بأمر الله إزاء النصارى، واشتداده في مطاردتهم، وما اتخذه من الإجراءات العنيفة لهدم الكنائس والأديار، ولاسيما كنسية القيامة (القبر المقدس) ببيت المقدس أثارت حفيظة السياسة البيزنطية، وحفيظة الكنيسة الشرقية التي كانت تعتبر نفسها حامية النصرانية في المشرق؛ بيد أن الدولة البيزنطية لم تستطع يومئذ أن تتدخل في سير الحوادث. وكانت الأميرة ست الملك أخت الحاكم تخشى عواقب هذه السياسة العنيفة وتجاهد في تلطيفها، وكان لها حسبما تؤكد الرواية أكبر يد في تدبير مصرع أخيها وإنقاذ الخلافة الفاطمية من عواقب هذه السياسة الخطرة. فلما انتهت المأساة بذهاب الحاكم، وقام ولده الظاهر في عرش الخلافة بتدبير ست الملك ورعايتها، عادت الخلافة الفاطمية في الحال إلى تسامحها المأثور نحو النصارى، وردت إليهم حرياتهم وحقوقهم، وسمح لهم بتجديد ما درس من كنائسهم، ولاسيما كنيسة القيامة، وألفت ست الملك الفرصة سانحة لتجديد الصداقة والمهادنة