أما الرهبنة المسيحية فقد كان لها أيضاً أثرها في الزهد الإسلامي لا من حيث أنها كانت السبب في وجوده، بل من ناحية أنه تسرب إلى طريقة المسلمين في الزهد كثير من تقاليد الرهبان المسيحيين وعاداتهم وطقوسهم
بل إن القرن الثاني لم يكد ينتهي حتى انتظمت حركة الزهد الإسلامي داخل أديرة وصوامع أشبه بأديرة وصوامع المسيحيين: فأسست خانقاه في دمشق سنة ١٥٠هـ وأخرى بخراسان سنة ٢٠٠. ويقول عبد الرحمن جامي في كتابه نفحات الأنس أن أول خانقاه أسست في الإسلام كانت بالرملة بفلسطين أسسها في القرن الثاني راهب مسيحي - وإن كان المقريزي يقول في الخطط إن الأديرة لم تظهر في الإسلام إلا في القرن الخامس الهجري - ولعله يقصد بذلك انتشار الأديرة في البلاد الإسلامية لا مجرد وجود بعضها
وقد امتاز الزهد في القرنين الأول والثاني - ولاسيما القرن الثاني بصدق الورع والتقوى وسلامة الإيمان والخشية الشديدة من الله ومن عذاب جهنم، والأمل الشديد في الحظوة برؤية الله في الدار الآخرة، وكثرة المناجاة والكلام في الحب الإلهي
وقد تغلغل الزهد في نفوس المسلمين العامة والخاصة على السواء، وظهر منهم في القرن الثاني أمثال الحسن البصري المتوفى سنة ١١٠ وهو المؤسس لفرقة الصوفية بالبصرة، وإبراهيم بن أدهم البلخي المتوفى سنة ١٦١، وداود بن نصير المتوفى سنة ١٦٥، والفضيل ابن عياض المتوفى سنة ١٨٦، ومن النساء رابعة العدوية التي توفيت سنة ١٣٥
وكانت رابعة آية من آيات الله في الزهد: زهدت أولا في الحياة الدنيا وزخرفها طمعا في الآخرة وجنتها، ثم زهدت في الجنة طمعا في الفوز بمحبة الله ورضاه
وقد حل الحب الإلهي من قلبها كل مكان فأصبحت لا تناجي سوى الله ولا تتحدث إلا إليه؛ وفي هذا يحكي شهاب الدين السهروردي في عوارف المعارف أنها كانت تقول:
إني جعلتك في الفؤاد مؤانسي ... وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس ... وحبيب قلبي في الفؤاد جليسي
ويقول القشيري عنها إنها كانت تقول في مناجاتها (إلهي! تحرق بالنار قلبا يحبك؟) فهتف بها هاتف: ما كنا نفعل ذلك؛ فلا تظني بنا ظن السوء
أما القرن الثالث فدور انتقال من الزهد إلى التصوف بمعناه الحقيقي. والواقع أن هذا الدور