كان أقرب إلى الزهد منه إلى التصوف. في هذا القرن نجد كلمة (صوفي) شائعة الاستعمال ولم يكثر استعمالها قبل نهاية القرن الثاني خلافا لما ذهب إليه القشيري، فلم يفرق الناس بين زاهد وصوفي لأنه لم يوجد من الزهاد من ينطبق عليه وصف صوفي بالمعنى الدقيق. أما في القرن الثالث فحصل التمييز بينهما فسمى الزاهد زاهدا وسمى الصوفي صوفيا أحيانا وعارفا أحيانا
بل إننا نجد في هذا القرن تحولا في وجهة نظر الزهاد أنفسهم، فإنهم لم يعودوا ينظرون إلى الزهد باعتباره غاية في نفسه، بل نظروا إليه باعتباره وسيلة لتحقيق غاية أخرى هي الكشف: أي أنهم اعتبروا الزهد مرحلة من مراحل الطريق بواسطتها يصل السالك أو المريد إلى تصفية النفس والترقي بها في معارج الحياة الروحية إلى أن يصل بها إلى حالة الفناء التي تنكشف له فيها الحقائق الألهية، فتنعكس هذه الحقائق على مرآة قلبه كما تنعكس صور المرئيات على صفحة المرآة الصقيله المجلوة
وفي هذا القرن أيضاً نجد القوم يكثرون من الكلام في المواجد والأذواق، ويصفون الأحوال والمقامات، ويتكلمون في الصحو والسكر والمحو في الوحدة والسكرة والتفريد والتجريد والفناء والبقاء وغير ذلك من أحوالهم الصوفية
يعرف معروف الكرخي المتوفى سنة ٢٠٠ التصوف بأنه الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الناس؛ يريد أنه إدراك الحقائق الإلهية بواسطة الكشف والزهد في الدنيا. وهذا تعريف جديد للتصوف لم نسمع به من قبل
ونغمة أخرى جديدة نسمعها من ذي النون المصري الذي كان أول من تكلم في المعرفة الحاصلة بالكشف واعتبرها المقياس الحقيقي لحياة الرجل الصوفي، يقول: إنه بمقدار ما يعرف الصوفي من ربه يكون إنكاره لنفسه. وتمام المعرفة بالله تمام إنكار الذات، وهي الحالة التي عبر عنها غيره بالفناء
وفي هذا المعنى يقول الحسن بن علي بن يزدينار:(يكون العارف بمشهد من الحق إذا بدا الشاهد، وفني الشواهد، وذهب الحواس، واضمحل الإحساس) وهو قول ينسبه بعض الصوفية للشبلي، ونغمة ثالثة نسمعها من أبي يزيد البسطامي (المتوفى سنة ٢٦١) في الحال التي يعبر عنها القوم بالفناء: يقول أبو يزيد وقد سئل عن العارف (أي الصوفي):