(للخلق أحوال ولا حال للعارف، لأنه محيت آثاره ورسومه، وفنيت هويته (أي شخصيته) لهوية غيره، وعييت آثاره لآثار غيره؛ فالعارف خير والزاهد سيار) وفي هذه إشارة صريحة إلى التفرقة بين الزاهد والعارف أو الصوفي
في أثناء هذا القرن كان التصوف الفلسفي في دور التكوين؛ فقد توفرت العوامل على ظهوره، وتهيأت النفوس لقبوله، وظهرت بوادره بالفعل في عبارات بعض الصوفية أمثال ذي النون المصري وأبي يزيد البسطامي. ولكن من المغالاة أن نقول إن لأحد من متصوفة القرن الثالث مذهبا فلسفيا خاصا أو عقيدة فلسفية صوفية معينة، على الرغم من أن كثير من أقوالهم يمكن تأويلها تأويلا فلسفيا
ولكن سرعان ما انتهى عصر الانتقال وبدأ التصوف يدخل في دوره الثالث وهو الدور الفلسفي الحقيقي؛ وكان ذلك في القرن الرابع وما بعده، فقد تحول التصوف إلى شكل جديد بدخول النظريات الفلسفية فيه. وربما كان أول السابقين إلى هذا الميدان الحسين بن منصور الحلاج المتوفى سنة ٣٠٩هـ
لم يقف الصوفية بعد القرن الثالث عند حد الكشف والشعور بالمواجد والأذواق في أحوالهم الصوفية، بل حاولوا أن يفسروا ما يدركون ويؤولوا ما يشعرون به، ويعللوا لما يتذوقونه من تلك المعاني التي هي فوق طور العقل، فكانت نتيجة شرحهم وتفسيرهم وتعليلهم أن وضعوا نظرياتهم الفلسفية. عرفوا الكشف في أحوالهم فحاولوا أن يضعوا نظرية للكشف في صحوهم: أدركوا وحدة الوجود في حالة فنائهم فحاولوا تفسير وحدة الوجود. أدركوا الوحدة في الكشف والتعدد في الصحو فدعاهم ذلك إلى تفسير معنى الوحدة والكثرة، ومعنى الحق والخلق ومعنى الفيض والاتصال، والجمع والتفرقة وغير ذلك
فمجموعة تفسيراتهم لمظاهر الحياة الصوفية هي الذي نعنيه بفلسفتهم التي يمكننا أن نلخصها في ثلاث نظريات: نظريتهم في طبيعة الوجود، نظريتهم في المعرفة، نظريتهم في الإنسان ومركزه في العالم وموقفه من الله
على أن من الصوفية من رجال العصر المتأخر أمثال محي الدين بن عدي، وشهاب الدين عمر السهروردي المقتول، من سلك مسلك الفلاسفة من بادئ الأمر، فكانت لهم وجهات نظر فلسفية خاصة في طبيعة الوجود وفي الإنسان والعالم، فاستعملوا المنهج النظري