ولما كان الشعر والنثر يعبران مشتركين عن شتى خوالج النفس الإنسانية، فمن الطبيعي أن يرتقيا معاً في عصور الرقي الإنساني وينحطا معاً في عصور الانحطاط. بيد أنه يلاحظ بجانب ذلك أن أحدهما ربما ارتقى وفاز باحتفاء الأدباء والثاني في انخذال وقعود، تبعاً لما تميل إليه نزعة الشعب في عصر من عصوره، فكما يختلف الفرد الواحد بين نزعة الخيال والعاطفة والخفة أحياناً، وبين نزعة التأمل الوقور والاستقصاء الهادئ للحقائق أحياناً حسب اختلاف أطوار النفس الإنسانية الخفية الأغوار المنقلبة الأطوار، كذلك تمر الأمم بعصور طموح ومغامرة يزدهر فيها الشعر والنثر الشعري، وبعصور هدوء وركود، وتأمل علمي وفلسفي، يغزر فيها النثر ويلعب دوراً كبيراً ويخفت صوت الشعر
فإذا نحن رسمنا لأطوار الشعر والنثر دورة، كتلك التي رسمها أرسطو لنظم الحكم في المدن اليونانية، بين ملكية وارستقراطيه وهلم جراً، كان أول أطوار تلك الدورة طورا شعرياً طويلا، يبلغ ذروته بنهضة الأمة بين الأمم، ونيلها نصيباً وافراً من الحضارة والثقافة، يلي ذلك طور نثري يشتغل فيه النثر بنقد ما تجمع لديه من آثار الشعراء المتقدمين، وينخذل الشعر في أثنائه أو عقبه مباشرة؛ فإذا ما انبثت في الأمة روح جديدة جاء طور شعري جديد سابق أيضاً، يليه طور نثري وهلم جراً. ولعل في تاريخ الأدب الفرنسي مثالا لذلك واضحاً: إذ سبق الشعر الفرنسي بالظهور على أيدي التروبادور ورونسار، ثم نهض النثر على أيدي رابليه ومونتين في عهد النهضة الأوربية، ثم نهض الشعر مرة أخرى في عهد لويس الرابع عشر على أيدي كورني وراسين، ثم كان القرن الثامن عشر عهد نثر طويلا ظهر فيه فلتير وروسو، ثم كانت النهضة الرومانسية الشعرية فظهر لامرتين وهوجو، ثم نهض النثر بانتشار الحركة العلمية وذيوع القصة، وظهور القصاصون كبلزاك وموباسان، والنقاد كرينان وتين
يتشارك النثر والشعر - منذ ظهور النثر الفني - في تأدية رسالة الأدب ويتشابكان موضوعات وغايات، ويتراوحان صعوداً وهبوطا مع تعاقب العصور، ويظهر النوابغ في كل منهما، وينال هؤلاء وأولئك حب المثقفين وإعجابهم؛ بيد أن الشعر يظل آثر لدى المثقفين وأكثر استئثاراً بحفظهم وساتشهادهم، ويظل الشعراء أحظى بالرعاية والاهتمام، وآثارهم أحظى بالدرس والنقد. وإلى الشعر والشعراء ينصرف الذهن أول ما ينصرف إذا