الموسيقى ووضوحها واطرادها بلا إخلال، كالإخلال الذي يكثر في الشعر الإنجليزي ويلجأ إليه شعراء الإنجليزية قصداً للتنويع واجتناب الاطراد الممل، وظلت القافية في الشعر العربي كذلك واضحة جزلة مكونة في الواقع من قافيتين صوتيتين، كما في (عانيه) و (مانيه) في البيت السالف الذكر، وهذا ما يعرف في الإنجليزية بالقافية المؤنثة، وقد دخلت الإنجليزية نقلا عن الإيطالية ولكن الشعراء سرعان ما نبذوها، لعدم ملاءمتها لطبيعة اللغة الإنجليزية التي تمج الإفراط في الموسيقية نثراً أو نظما.
ولما ظهر النثر الفني بجوار الشعر، ونبغ فيه الكتاب واحترفوا إنشاء الرسائل الديوانية، وحرصوا على التزود بكل أسباب الثقافة، والتحلي بكل موجبات الفضل، عالج أكثرهم الشعر طبعا أو تكلفا، فأثرت عن الحسن بن وهب وابن الزيات وابن الصولي وسعيد بن حميد وابن العميد وابن عباد والخوارزمي والبديع والجرجاني والعسكري، أشعار قالها بعضهم تظرفا ورياضة للقريحة، وقالها بعضهم جادين في التعبير عن خوالج صميمة وآراء صادقة. وقد قيل إن الجاحظ عالج قرض الشعر طويلا ثم أقلع حين لم يفلح. وكان البديع والحريري يخالفان في مقاماتهما بين شعر ونثر لا يكاد يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعروض، وفيما عدا ذلك يتساويان تنميق لفظ وبلاغة إنشاء، ومن أجمل أشعار الكتاب قول الجرجاني من أبيات هي من غرر الشعر العربي: -
يقولون لي: فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
إذا قيل: هذا مشرب قلت: قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظما
وقد كانت المقابلة والمفاضلة بين الشعر والنثر من هم نقاد العربية وكان أكثرهم يميل مع الشعر؛ على أنها مفاضلة لا موضوع لها: فليس الشعر خيراً من النثر ولا النثر خيرا من الشعر، وإنما كلاهما ضروريان وكل منهما جميل في موضعه، زد على ذلك أن أولئك النقاد كانوا يدخلون في حسابهم اعتبارات خارجية لا صلة لها بالفن الصميم، بل هي شؤون اجتماعية أو سياسية أو فردية صاحبت الأدب في بعض العصور، فأصحاب الشعر يستدلون على أفضليته بأن الشاعر يخاطب الأمير باسمه مجرداً وباسم أمه وبصيغة المفرد، وبأن الشعر رفع قبائل كأنف الناقة ووضع أخرى كنمير، وبأن الكذب ومدح النفس يقبلان فيه ولا يستساغان نثراً؛ وأصحاب النثر يؤيدون حجتهم بأن الرسول الكريم لم يقرض