وقد كان جوته في مدينة (ويمار) - وهي الآن تكريما له عاصمة الريخ الألماني - حين جاز بها الروس المسلمون من شعب البشكير على ظهر جيادهم، ونزلوا بها، واتخذوا أحد معاهد البروتستانت مسجداً للصلاة. ولا تسل عن فرحة جوته بهم وحضوره صلاتهم واستماعه إليهم يرتلون آيات القرآن ومقابلته إمامهم وتحيته لأميرهم في المسرح. وهو يذكر في هزة المحبور أنهم اختصوه من رعايتهم بقوس وسهام لم يزل يعلقها فوق موقده طيلة عمره تذكارا باقيا. وبلغ من حب جوته للشرق أنه كان يعالج محاكاة الكتابة العربية ورسم حروفها، ويغتبط وهو يقيمها ويسطرها من اليمين إلى اليسار على عكس كتابة أهل الغرب
فهل وقف جوته عند هذا الذي عرفه وأحبه في الشرق؟
الواقع أن فيما عرفه جوته حتى الآن عن الشرق وفيما أحبه منه مقنعاً وأي مقنع. ولكن الرجل أبت له نفسه الرحيبة ألا يجتمع فيها الشرق السامي والشرق الآري كما يقولون: شرق العبرانيين والعرب وقد تقدم، وشرق الهند والفرس
فقد أقبل الرجل يتعرف إلى المئات والمئات من آلهة الهند ويشهد في التهاويل والصور وأوثانهم الهائلة المخيفة، واطلع على مطولات أساطيرهم، واحتار بين أتاويه مذاهبهم، وتعجب لاختلاط الشهوات بالقداسات عندهم، والتقاء الحضيض بالسموات في نظرهم. وقد أخرج من ذلك أساطير هندية رائعة منها (الإله والراقصة) و (موبذ البراهمة وزوجه) وغيرهما
وقد أثنى جوته على حكايات الفيلسوف (بيدبا) التي وضعها للملك (دبشليم) على ألسنة الحيوان، ويلاحظ جوته أن الفرس نقلوا هذه دون غيرها عن الهند لعدم اتصالها بالوثنية الهندية الفظيعة، ونفور أذواقهم الدقيقة المهذبة من تلك الفلسفة الدينية العويصة. أما هذه الحكايات عن كليلية ودمنة فهي تقع موقع القبول عند الناس أجمعين، وقد صار لها شأنها الكبير عند الفرس والعرب لما انطوت عليه من الحكمة العملية والخبر بالحياة.
وكان شاعرنا الألماني في ذلك الأوان قد أوفى على الستين، ولكنه مجدد الشباب أبداً كالخالدين. وقد اختار لمطافه الأخير أدب فارس، أدب الجنات والبساتين، أدب الورد والبلابل، والحب الحسي والوجد العلوي. ولقد استغرق جوته في هذا الأدب ونسى عالمه