ثم جاءت بعد ذلك بيئة الأدباء واللغويين في المربد وغيره من أندية الثقافة فأدوا كثيرا في خدمة النقد والبلاغة، وقد اتصل الجاحظ بكل هذه البيئات واخذ عنهم. ونحن يصعب علينا أن نحدد ما للرجل في ذلك وان نميز أقواله من الأقوال التي اقتبسها
ومهما سكن من شيء فالجاحظ قد فصل الأدب عن الأخلاق وروى كثيرا من الأدب العاري. وكان يطلب من الكتاب أن يتثقفوا ولكنه لم يطلب من الشعراء ذلك. والحق أن الجاحظ كان ناقدا ممتازا، وكانت له طبيعة في ذلك؛ وكان حر الرأي فلم يقدم القديم لقدمه، ولم يرفض الحديث لحداثته. وكان عربيا ولكنه كان يحترم شعراء الشعوبية ويقدمهم فمدح بشاراً وأبا نواس وأمثالهم. ولقد كان الجاحظ بآرائه حرياً بان يخلق من حوله حركة أدبية حافلة لو أن النقاد تابعوه، ولكنهم انصرفوا عن ذلك واكتفوا بنقد النصوص نقداً لفظياً نحوياً ولغوياً.
وليس كتاب البيان والتبيين فيما أرى صدى لخطابة أرسطو وأنا لا أشك في أن الجاحظ لم يره، وما ذكره ابن النديم لا يفيد ذلك، وأن كان العرب قد وقفوا على شيء من الثقافة اليونانية والجاحظ لم يكن من رجال المنطق. وقد عابه قدامة بأنه لم يذكر أقسام البيان!!
وقد أثرت آراء الجاحظ فيمن جاء بعده، ولعل أهم هذه الآراء مسألة اللفظ والمعنى وقد أطال الجاحظ القول في هذه المسالة وهي عنده قبل كل شيء مسالة دينية لاتصالها ببلاغة القران. وقد اسقط الجاحظ قيمة المعنى وجعل اللفظ هو كل شيء؛ وقال إن المعاني مطروحة في الطريق لكل الناس يلتقطها العامي وغيره وقد فتن العلماء بعد الجاحظ بهذا الرأي ووافقوه عليه. وقلما نجد فيهم واحدا اهتم بالمعنى والبحث فيه، بل انهم اسقطوا المعنى ولم يروا له فضلا!!
ومن بعد ذلك أخذ الأديب عبد اللطيف حمزة في الكلام عن (الجاحظ المعتزلي) فابتدأ القول في نشأة الاعتزال، فعرض لحركة الحسن البصري في مسجد البصرة وما كان بينه وبين وصل، ثم قال: ومضت الدولة الأموية، واتت من بعدها العباسية، وجاء الفرس بمزاياهم وببلاياهم، وأقول ببلاياهم لأنهم جاءوا بالإلحاد والزندقة ورفعوا لواء الشعوبية ولا شك أن المعتزلة هم الذين استطاعوا أن يردوا هجمات الفرس وان يكبتوا الشعوبيين لأنهم تدرعوا