للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تصير إليك! فقال: حسبكم يا إخوان: إني والله على ما ترون مني من شدة الشغف والكلف بها ما قدرت فيها حراما قط، ولا تقديري إلا مطاولتها ومصابرتها إلى أن يمن الله بثروة فأشتريها، وبغير هذا لا يكون الوصول إليها مني على بال.

وأمضى الرجل في اخوتنا شهرين فكنا في اغتباط بقربه، وانس من صحبته، ثم خالسنا الفراق على غفلة فنالنا بذلك ثكل ممض، ولوعة مؤلمة، وما كنا نعرف له منزلا فنلتمسه، لا بابا فنطرقه. فوالله لقد كدر علينا بعده بقدر ما طاب لنا بقربه، وجعلنا لا نرى سرورا ولا غما إلا ذكرناه لأفضال السرور بصحبته وحضوره، والغم بمفارقته وغيابه، فكنا فيه كما قال الشاعر:

يذكرنيهم كل خير رأيته ... وشر، فما انفك منهم على ذكر

وتصرمت على غيابه عشرون يوماً وكأنها الدهر، وما لنا مطمع في لقياه ثانية، فأن فترات الصفو محدودة، والحياة ضنينة في إرجاع ما كان، فبينا نحن نجتاز الرصافة يوما إذا به يطالعنا في موكب نبيل، وزي جميل، وما ابصر بنا حتى انحط عن راحلته وانحط غلمانه، وإني ما زلت المحه في أعطاف الماضي وهو مقبل نحونا في لهفة يقول: والله يا إخواني ما هنا لي بعدكم عيش، ولا طاب لي انس، ولا عرفت في نفسي معنى الصفو، ولست أماطلكم بخبري فإني أتبين فيكم اللهفة إلى ذلك فميلوا بنا إلى المنزل وهو قريب، فملنا معه عن رغبة، ولما تم بنا المجلس قال: لقد آن لي أن اكشف لكم عن نفسي! أنا العباس ابن الأحنف وطبعا سقط لكم شيء من أمري، وكان من خبري بعدكم أني تركتكم اطلب منزلي لحاجة، فإذا بالشرطة في طلبي، وفي كثير من السرعة مضوا بي إلى دار الخلافة ودارة الملك، فصرت إلى يحيى بن خالد فقال لي: ويحك يا عباس؛ إنما اخترتك من ظرفاء الشعراء لقرب مأخذك، وحسن تأتيك؛ وان الذي ندبتك في شأنه لجليل. فأنت اعرف بخطرات الخلفاء، وإني أخبرك أن (ماردة) هي الغالبة على أمير المؤمنين اليوم، وقد جرى بينهما عتب، فهي بدل المعشوق تأبى أن تعتذر، وهو بعز الخلافة وشرف الملك يتعالى على ذلك. فقل شعرا يسهل عليه سبيل الوصل، ويقرب له شقة المعاودة. ثم اطرحني إلى غرفة خالية وقدم القرطاس والدواة وقال هيا يا عباس!!

ولا أكتمكم يا إخوان لقد شرد مني الذهن وتبلد الفكر، فتعذرت على كل عروض ونفرت

<<  <  ج:
ص:  >  >>