للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

كان أول ما رأينا المسجد الجامع، وهو كبير جداً لو وضعت سامراء الحاضرة فيه لوسعها وفضل عنها، لم يبق منه إلا السور وهو مبني من اللبن مثل سائر الأبنية العراقية، تدعمه من ظاهره أبراج مستديرة، ووراء السور المنارة، وتعرف عند الناس بالملوية أي المستديرة، وهي حلزونية الشكل سلّمها من ظاهرها، مؤلفة من سبع طبقات، ارتفاعها (٧٥) متراً، وتحتها قاعدة مربعة أقيمت حديثاً لتقويتها، طول الضلع من أضلاعها (٤٠) متراً، فصار ارتفاع المنارة قريباً من (٨٥) متراً وقد بنيت على غرارها منارة جامع ابن طولون في القاهرة، ثم تركت هذه الصفة في المآذن واتخذ لها سلم من جوفها.

تركنا المسجد وسرنا في وجهة واحدة، كيلا نضل في وسط هذه الأطلال، وكان حولنا تلال من التراب، كانت قبل ألف ومائة سنة، دوراً عامرة، وقصوراً فخمة، فجزنا بها حتى بلغنا أنقاضاً حولها سور كبير، أخبرنا بها معلم المدرسة أنها أنقاض قصر أُم عيسى ابنة الواثق، وعلا بنا على تل عال وقال: انظروا، فنظرت فلم أر إلا برية واسعة. لا شيء فيها. . . فقال: أمعن، أنظر، وحدق في الأرض، ففعلت فرأيت شيئاً أدهشتي، وخفق له قلبي، رأيت تلالاً صغيرة منتظمة، على شكل دوائر متقاطعة على نمط هندسي بديع، تمتد إلى ما لا يدرك البصر آخره. . . فقلت وأنا مشدوه: ويحك ما هذا؟ قال: حديقة!

وأي حديقة هي؟ حسبي أن أقول: إنها شيء هائل!

ومضينا. . . نمر على الأطلال. حتى بلغنا آثار سور كبير جداً كأنه سور مدينة. . . فقال دليلنا: هذا بلاط الخليفة، فترجلنا وسرنا في طريق مبلطة باقية آثارها، ونحن نتخيل كم مر في هذه الطرقات من خلفاء وأمراء، وكم شهدت من جلال وجمال، حتى بلغنا مصيف المتوكل، وهو أول ما استقبلنا من القصور، ونسيت أن أقول إن البلاط بلدة واسعة، فيها عشرات القصور تبدو أنقاضها ناطقة بعظمتها، وفيها مسجد كبير، وفيها البركة المتوكلية المشهورة، بركة البحتري، فولجنا المصيف، وهو قصر كبير تحت الأرض، به غرفة محفورة فيها حفراً، وهي متصلة يفضي بعضها إلى بعض، ولها نوافذ كثيرة، تضمن لها حسن التهوية، وفي وسط القصر بركة. . . وقد كدنا نهلك من حرارة الشمس ونحن فوق الأرض، فلما هبطنا إلى جوف القصر كدنا نهلك من البرد. . .

وكان الصديق الأستاذ كامل بك يسرد فلسفته العلمية ويقص علينا قصة القصر وبناءه، وفنه

<<  <  ج:
ص:  >  >>