وقيمته التاريخية ولكن واحداً منا لم يكن يصغي شيئاً أو يفهم شيئاً مما يقول. . . فكف وعلم أن الكلام الآن للقلب وعواطفه الحية، لا للعقل ومقاييسه الجافة، وفلسفته الباردة. . .
كنا نتخيل هذا القصر، وقد كان يعج بالحياة، ويفيض بالحب؛ كنا نسمع الأصوات، ونبصر الألوان، ونشم عبق العطر ونحس كأنا نرى الخليفة ونشهد مجالس الأدب والغناء، وخلوات الحب.
كم عاش في هذا المكان من عواطف! كم خفقت فيه من قلوب! كم امتلأ بالحياة. . . أفيؤدي ذلك كله بمثل هذه السرعة وهذه السهولة، ويشمله العدم ولا يبقى له وجود قط؟
أي امرئ عرف الحب، وكابده وأدرك معناه، ثم يؤمن بأن العدم يقوى عليه! لا. إن ذلك كله موجود! موجود في زاوية من زوايا هذا الكون الفسيح، إنه خالد لا يفنى أبداً، إن في هذا القصر ذكريات جمة، تحتويها هذه الجدران الخرساء، وهذا اللبن البارد، إن فيه صدى تلك الهمسات التي كانت تتناجى بها الشفاه؛ إن فيه خفقات تلك القلوب؛ إن فيه رنات تلك القبل.
إن سؤال الديار، واستخبار الأطلال، أقدم فنون الشعر العربي، فهل ترى الشعراء كلهم مجانين؟ أتراهم كانوا عابثين؟
لا. إن في هذه الأطلال الحياة. . . إن كل شيء في الوجود حي يذكر ويأمل ويشعر ويحلم، ولكنه لا ينطق ولا يفكر. . .
آه. . . لو أن هذه الجدران كانت تنطق، وتتحدث وتصف ما تشعر به. . .
وخرجنا من القصر، ونحن نحس كأنا قد خرجنا من أنفسنا وانتقلنا إلى عالم آخر، عالم تمتزج فيه الأحلام بالحقيقة؛ عالم شعري ساحر. . . فمررنا على جب واسع للماء خبرنا دليلنا إن بعض الجاهلين من الإدلاء والتراجمة يدعون بأنه سجن، ويختلقون حوله الأكاذيب. . . وهؤلاء الإدلاء والتراجمة بلاء أزرق، وقد سمعت واحداً منهم يشرح لبعض الإفرنج تاريخ المسجد الأموي في دمشق، فقال لهم ما نصه:(هذه هي المنارة التي بناها الوليد بن هارون الرشيد لسيدنا عيسى، ولذلك سميت منارة عيسى) وهم يكتبون في دفاترهم ما يقول، فينشرونه على إنه كتاب علمي عن الشرق وأهله، وليس العهد ببعيد بتلك الكاتبة الفرنسية التي كتبت كتاباً عن دمشق قالت فيه: ويخرج أهل دمشق كل مساء لزيارة